إن ثلاثة من بني اسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله أن يبتليهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، و زدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الحديث النبوي الشريف، الحديث طويل جدا لا مجال لكتابته يُرجع إليه في كتب الحديث، طبعا الحديث يعالج قضية تمس حياة كل واحد منا، ما من واحد منا إلا وله من هذه الدنيا نصيب، له من الشكل نصيب، هناك الوسيم، وهناك الممشوق وهناك الرشيق، وهناك الدميم، وهناك من فيه الحسن مجتمعة، ومن فيه القبح مجتمعة، ما من واحد منا إلا وله من الحسن نصيب، ومن الصحة نصيب، هناك صحيح الجسم، قويّ البنية، و هناك معتل الجسم، معتل الصحة، ما من واحد منا إلا وله من القوة نصيب، سواء أكانت قوة عضلية أو قوة اجتماعية أو قوة مادية أو قوة معنوية، فالصحة والمرض و الجمال و القبح والقوة و الضعف والغنى و الفقر و الزوجة الصالحة و الزوجة الطالحة و الأولاد الأبرار و الأولاد الأشرار، والعمل المريح و العلم الشقي، والعمل كثير الدخل، والعمل قليل الدخل، فما من واحد منا إلا وله نصيب، ومن رضي بما قسمه الله له كان أإنى الناس، ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس، الموضوع لماذا هو دقيق ؟ لأن سر الإيمان بالله أن ترضى عن الله، أن ترضى عما أعطاك من شكل و من زوجة ومن أولاد ومن بيت ومن عمل، دخل محدود، دخل غير محدود، صحة طيبة، صحة معلولة، من أسرة غنية، من أسرة فقيرة، قوي، ضعيف، في وظيفة رفيعة، في وظيفة متدنية، في عمل متعِب، في عمل مريح، هذه حظوظ، و لا شك أن الحظوظ متفاوتة، أما إذا كنت مؤمنا حقا فإنك ترى كما قال الإمام أبو حامد الغزالي: ليس بالإمكان أبدع مما كان " ليس في إمكان الله، حاشا، ليس في إمكانك أيها العبد أبدع مما أعطاك، لذلك يوم يُكشف الغطاء و يصبح بصرك حديدا لا تملك إلا أن تقول: الحمد لله رب العالمين على أن جعلتني معلول الصحة في الحياة الدنيا، على أن سقت إليّ بعض الشدائد، على أن ضيّقت عليّ في الرزق، على أن جعلت لي هذه الزوجة التي أرتني نجوم الظهر، فربما كانت الزوجة السيئة لمصلحة إيمانك، و ربما كان الدخل القليل دفعا لك إلى الله، وربما كان القهر و الضعف و أن تكون مستضعفا في الأرض لا أن تكون قويا ربما كان هذا دافعا لك إلى أن تبلغ الدرجات العلى، ولا تنسوا أن النبي عليه الصلاة و السلام أذاقه الله كل شيء، لمذا كان قدوة لنا ؟ لأن الله سبحانه و تعالى أذاقه طعم الفقر، دخل إلى بيته و ما من. واحد منكم و أنا متأكد أصابته هذه الحالة، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ:
(( دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ))
[رواه مسلم]
هل في بيت واحد من الناس في هذا البلد الكريم بيت ليس فيه طعام ؟ مستحيل، فقال: إني صائم، وأذاقه الله لذة الغنى، فقال: لمن هذا الوادي يا رسول الله ؟ قال: هو لك، فقال: أشهد أنك تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أذاقه قوة النصر، فتح مكة، فدخلها مطأطئ الرأس تواضعا لله عز وجل، وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وأذاقه مرارة القهر في الطائف، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، أذاقه طعم التيُتم، يتم الأبوين، يتم الأب و يتم الأم، و أذاقه موت الولد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:َ
((دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))
[رواه البخاري]
هذا الحزن المقدّس، أما الذي يضرب وجهه و يصرخ بويله، ويمزق ثيابه هذا ليس من الإسلام في شيء، و أذاقه تطليق بناته نكاية به، اثنان من أصهاره طلقا بنتيه نكاية به، وأذاقه أن يقول الناس عن زوجته عائشة الطاهرة أذاقه أن يقول الناس عنها كلاما لا يرضيه،
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
[سورة النور]
﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)﴾
[سورة النور]
من منا يحتمل أن يقال عن زوجته إنها زانية، من منا يحتمل ؟ ولو تتبعتمك سيرته الطاهرة لوجدتم ما من حال يصيب الإنسان إلا و أصاب النبي عليه الصلاة و السلام ليكون لنا قدوة، أتحب أن تكون نبيا ملكا، قال: بل نبيا عبدا، أجوع يوما فأذكره، و أشبع يوما فأشكره، لهذا قال الله عز وجل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)﴾
[سورة الأحزاب]
لك به أسوة، أبٌ مثالي، أخ مثالي، قريب مثالي، جار مثالي، قائد مثالي، حاكم مثالي، أمير مثالي، اللهم صلِّ عليه،
وأحسن منكَ لم تر قط عيني وأجمل منكَ لم تلد النساءُ
خُلقت مبرأً من كل عيــب كأنك قد خلقت كما تشاءُ
كل واحد منا له من الله نصيب، الله جعله فقيرا، بذلَ بذل و أخذ شهادات عليها، توظف، دخله محدود لا يكفي خمسة أيام، مصروفه بدقة بالغة، بتقتير و حرص شديد، و إنسان يأتيه المالُ من دون حساب، هذا حظه من المال قليل، وهذا حظه من المال كثير، إنسان ضعيف مستقهر مقهور، و إنسان قوي بيده مقاليد بعض الأمور، هذا حظه من القوة كثير، وهذا حظه من الضعف كثير، أو من القوة قليل، إنسان حظه من الصحة كبير، وهذا حظه من الصحة يسير، فاختلاف الحظوظ هذا اختلاف ابتلاء يا إخوان، الفقير مادة امتحانه الفقر، والغني مادة امتحانه الغنى، و القوي مادية امتحانه القوة، والضعيف مادة امتحانه الضعف مادة امتحان أسئلة فإذا نجح الفقير و سقط الغني جاء يوم القيامة فسعِد الفقير لأنه نجح في مادة امتحانه فسعد بهذا النجاح إلى الأبد، وإذا سقط الغني في امتحانه فكان متكبرا وكان بخيلا أو قبض يده عن الناس، الآن عندنا قصة، هذه القصة لها علاقة بهذه المقدمة.
أريد أن أؤكد لكم أيها الإخوة أن الناس في الأرض متفاوتون في أنصبتهم من الله عز وجل، متفاوتون في حظوظهم، هذا لتفاوت يجري وفق حكمة ما بعدها حكمة، وعلم ما بعده علم، و خبرة ما بعدها خبرة، فلو كُشِف لك الغطاء لاخترت الواقع و لا زدتَ على أن قلت: الحمد لله رب العالمين، فالنبي الكريم يقول
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
((مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ))
[رواه الترمذي]
أحيانا الزوجة السيئة دافع إلى الله، هناك إنسان لا يتحمل زوجة صالحة، جمعت بين الجمال و الكمال والعلم و الثقافة و الحسب و النسب و الغنى، يعبدها من دون الله، يجعله له زوجة، يرتاح منها و يأتي إلى المسجد، لا يريد هذه الزوجة، ربما كانت كذلك، و ربما كانت هذه الزوجة الصالحة هي التي أخذت بيده إلى الله عز وجل، يكون الزوج ورعه ضعيفا، نفسه تواقة للدنيا، تأتيه زوجة ورعة، ولية من وليات الله الصالحات، تحضُّه على الصلاة و على قيام الليل و على الذكر وعلى الاستقامة و على...، تهيئ له الجو المناسب، تكون هذه الزوجة عونا لزوجتها إلى الله عز وجل، فالحظوظ متفاوتة، لو أمعنت النظر لرأيت أن الذي قسمه الله لك وراءه حكمة ما بعدها حكمة، وعلم ما بعده علم، و خبيرة ما بعدها خبرة، و ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولو كشف الغطاء لاخترت الواقع.
((فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ ثَلَاثَةً - ثلاثة اسم إنّ، فــ " أبرص بدل بعض من كل - فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى))
لو قلنا: ثلاثةٌ من بني إسرائيل أبرص و أقرعُ وأعمى، لو قلنا من ثلاثةٍ من بني إسرائيل أبرص ممنوع من الصرف، وأقرع أيضا ممنوع وأعمى
((فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا ))
الملِك غير الملَك، الملِك بالكسر معروف، و الملَك معروف، وفي الفاتحة هناك مالك يوم الدين و ملك يوم الدين، وقال بعض المفسرين: المالِك هو الذي يملك و لا يحكم، والملك هو الذي يحكم و لا يملك، والله مالك و ملك، يملك و يحكم - فَأَتَى الْأَبْرَصَ - الأبرصَ مفعول به،
(( فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي الّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَن))
أحيانا يكون إنسان يتمنى أن يكون لونه أفتح، ولا سيما بعض النساء، لو كان على أفتح بالناقص غطسة من هذه الحلة، يتمنون، الله عز وجل حكيم، هي من هذا متكبرة، بهذا اللون متكبرة، فكيف لو كان على أفتح
((وَجِلْدًا حَسَنًا فَقَالَ أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ))
شك الراوي، قال الراوي: حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه من كان فيه خصلتان دخل الجنة ؛ أما الأولى فقد نسيها الراوي، أما الثانية فقد نسيتها أنا، لم يقل لنا شيئا إذًا، فهنا الراوي شك قال: الإبل أو البقر،
((هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ))
أي كبيرة ولاّدة
(( فَقَالَ بَارَكُ لَكَ فِيهَا فَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عنه وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ قَالَ فَأَعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا وَقَالَ بَارَكُ لَكَ فِيهَا قَالَ فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ أَنْ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ فَأَعْطِيَ شَاةً وَالِدًا))
هذا ملَك أراد أن يمتحن هؤلاء الثلاثة ؛ الأبرص و الأعمى والأقرع –(( فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ الإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ البَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الغَنَمِ ))- أي كانوا فقراء تعساء منبوذين، فمنحهم الله عز وجل، هذا منحه جلدا حسنا، وهذا شعرا حسنا، وهذا كشف الله عماه فجعله مبصرا، وفوق هذا و ذاك أعطى الأولَ واديًا من الإبل، والثاني أعطاه واديا من الغنم، والثالث واديا من البقر، هذا الملَك نفسُه
((ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ))
بعدما صار جميل الصورة جذَّابا ملء السمع والبصر - فَقَالَ - هذا الملَكُ عن نفسه
(( رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي فَقَالَ لَهُ إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ - ليس معه النقد - فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ لَقَدْ وَرِثْتُ هَذَا المالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا - قال له: هذا المال ورثته كابرا عن كابر، ولا أذكر أنني كنت كذلك - فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ - أي خذ مهما بدا لك، خذ كل المال و أنا طيب النفس - فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ))
[متفق عليه]
امتحان، واللهِ الذي لا إله إلا هو ما من واحد منا إلا و يُمتحن في اليوم مئات المرات وهو لا يشعر، يُسأل حاجة، يُسل بجاهه و قد يكون له جاه، يُسأل بماله و قد يكون له مال، يُسأل بقوته و قد يكون له قوة، فإما أن يعطي و إما أن يبخل، فمن يبخل فإنما يبخل على نفسه، و من يبخل فإنما يمهِّد لنفسه، فالإنسان إذا آتاه الله عز وجل مالا، آتاه صحة، آتاه علما، آتاه حنكة، آتاه حكمة آتاه خبرة في موضوع معيّن، آتاه جاها، يجب أن يبذل هذا كله في سبيل الله وإلا تصدق عليه هذه القصة فيكون كالأبرص و كالأقرع، فإذا أعطى مما أعطاه الله يكون مثل هذا الذي رضي الله عنه، فشكر نعمة الله عز وجل، فالإنسان لا يضن و لو طُرق باباك الساعة الثانية عشر ليلا، طلب منك أن توصل مريضا بسيارتك، يا أخي البنزين غالي، على الله ليس غاليا، إذا أعطاك يطلبك، لا تقول: غالي، اخدم الناس، واحد مؤمن صادق قال لك: دين لي مبلغا، تعرفه يؤدي الذي عليه، وأنت معك، لا تقل: ليس معي نقديات، قل له: تكرم، كتبه وصلا، كتبه إيصالا رسميا، إذا كنت تثق به
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾
[سورة البقرة]
واللهِ هذه الآية إذا تمعّن فيها الإنسان يذوب، الله يطلب منك القرض، تردّ الله عز وجل:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾
[سورة البقرة]
سمعت ببعض أحياء دمشق القديمة بيت عربي فيه ليمونة، تحمل أربعمائة إلى خمسمائة ليمونة، كلما دُقّ الباب،: " بالله ليمونة، توفت الأم جاءت الكنة، دق الباب، " وراحوا ليس عندنا ليمون، يبست الليمونة، لا تتم أساسا، أحيانا ربنا يعطيك لتعطيه، فإذا بخلت منع عنك، إذا الإنسان متمع بنعمة حينما يبذلها يقره الله عليها، فإذا بخل بها حرمه الله منها، ابن آدم أنفِق أُنفق عليك، أنفق بلالا و لا تخش من ذي العرش إقلالا..." أنفق أنفق عليك، إذا كنت مؤمنا أن هذا القرآن كلام الله، فالقرآن الكريم ينطق في ثماني آيات أن كل نفقة تنفقها في سبيل الله لا بد أن يعوِّضها الله عليك، إن عاجلا أو آجلا.
أفاد الحديث أن من أقبح الصفات البخل، لهذا قال الله سبحانه و تعالى:
﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾
[سورة الحشر]
فالبخل و الكذب موجبان لغضب الله عز وجل وسخطه، و الصدق و الكرم موجبان لرضاء الله و إكرامه، فالإنسان أولاً كما قلت في مطلع هذا الدرس توزيع الحظوظ، تفاوت الحظوظ في الدنيا هذا التوزيع توزيع ابتلاء، وسوف تُوزّع الحظوظ توزيعا آخر يوم القيامة هو توزيع الجزاء، والعبرة لا لتوزيع الابتلاء بل لتوزيع الجزاء، العبرة أن تكون غنيا بعد الموت، من هنا قال الإمام عليّ كرم الله وجهه
((الغنى و الفقر بعد العرض على الله))
والآن إلى متابعة سيرة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه و أرضاه، قيل: في ضحى بعض الأيام اجتاح أهل مكة جميعا حديث أثار كل ما في أنفسهم من دهشة و عجب، فقد كان أبو جهل ذاهبا لبعض شأنه حين مر بالكعبة، فأبصر النبيَّ عليه الصلاة و السلام جالسا وحده في المسجد الحرام صامتا مفكِّرا، وأراد أبو جهل أن يؤذيَ النبيَّ عليه الصلاة و السلام ببعض سخرياته، فاقترب منه و سأله: أولم يأتِك الليلة شيء جديد ؟ فرفع النبي عليه الصلاة و السلام رأسه نحوه وأجاب في جِد: نعم أسري بي الليلة إلى بيت المقدس بالشام، فقال أبو جهل مستنكرا: و أصبحت بين أظهرنا ! فقال عليه الصلاة و السلام: نعم، وهنا صاح أبو جهل في جنون: يا بني كعب بن لؤي هلموا - تعالوا اسمعوا القصة - وأقبلت قريش ينادي بعضُها بعضا ولم يكن الرسول عليه الصلاة و السلام قد حدّث أحدا من أصحابه المؤمنين، أول ما بلّغ الخبر لأبي جهل، وما حدّث أحدا من المؤمنين، بنبأ الإسراء، تجمع الناسُ عند الكعبة و مضى أبو جهل يحدثهم في حبور بما سمع، فقد ظنها فرصة مواتية لينفض الناس عن رسول الله - هذه ثخينة، تلك قبلناها أما هذه - و تقدّم واحد من المسلمين و سأل النبي: يا رسول الله أحقا أُسري بك الليلة ؟ فأجاب النبيُّ الكريم: نعم، و صليت بإخواني الأنبياء هناك، وسرى في الجمع المحتشد خليط متنافر من المعاشر المهتاجة، رحب المشركون بما سمعوا، ظانين أن في هذا النبأ نهاية الرسول، هذا خبر مستحيل تصديقه، واحتوت الشكوك فريقا من المسلمين، بعض المسلمين، وسعى بعض رجالات قريش إلى بيت أبي بكر فرحين سامتين، لا يخالجهم ريبٌ في أنهم سيعودون ومعهم ردّته عن هذا الدين، هذا صاحبه، فأبو بكر يعرف أكثر من غيره ما يحتاجه قطع المسافة بين مكة و الشام، من سفر مضن و زمان طويل، فكيف بالذي راح ورجع و صلى هناك، كل ذلك في بضع ساعات، بلغوا دار أبي بكر، وصاحوا به: يا عتيق كل أمر صاحبك قبل كام أَمما، أي معقولا، أي هينا و محتمَلا، أما الآن فاخرج لتسمه، تفضل لتسمع وبزغ عليهم أبو بكر دهشا تجمِّله سكينته ووقاره، و سألهم: ماذا وراءؤكم، قالوا: صاحبك، وانتفض أبو بكر وقال: ويحكم هل أصابه سوء ؟ فتراجع القوم قليلا وازدرد كل منهم ريقه في مشقة، وقال أحدهم: إنه هناك عند الكعبة يحدث الناس أن ربه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس ذهب ليلا، و تقدم آخر، نكمل الحديث، قال: ذهب ليلا وعاد ليلا وأصبح بين أظهرنا، فأجابهم أبو بكر وقد أشرق وجهه: أيُّ بأس، لا غرابة، إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه غدوة وروحة، ثم أطلق عبارته المشهورة: إن كان قال فقد صدق، لم يلتق برسول الله بعد، هو قال هذا فهو صادق، هل هناك كلمات تستطيع النهوض إلى مستوى الإشادة بهذا الموقف، هذا هو اليقين، هذا هو الإيمان، هذا هو التصديق، هذا هو العقل، هذا هو التسليم، هذه هي الثقة التي منحها إلى النبي عليه الصلاة و السلام، سيدنا الصديق لم يؤمن إيمان الصدفة، بل آمن إيمان الفطنة، لم يؤمن بعواطفه، بل آمن بذكائه، لم يدفعه إلى الإيمان منطق القلب وحده، بل منطق العقل قبله، إني لأصدِّقه فيما هو أبعد من ذلك أصدِّقه في خبر السماء يأتيه في غدوة و روحة، أفلا أصدِّقه، لكن سيدنا الصديق يعنيه أن يكون النبي قد أخبر و قال، وعندئذ يكون كل شيء ممكنا و صادقا، ولكن ليس متأكِّدا، لعل هذا الكلام افتراء على النبي، عليه أن يتأكد من نقطة واحدة، هل قال هذا النبيُّ حقا ؟ هل قال النبي هذا الكلام حقا ؟ إن كان قاله فقد صدق، وهرول أبو بكر رضي الله عنه إلى الكعبة حيث النبي، ذهب إليها مسرعا، و عند الكعبة رأى الجمع الشامت المرتاب متحلقين لاغطين، ورأى نور الله هناك في جلسته الخاشعة الضارعة، مستقبلا الكعبة، لا يحس من اللغط الدائر حوله شيئا، ولا يسمع للحمقى ركزا، وانطرح أبو بكر عليه يعانقه و يقول: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، واللهِ إنك لصادق، واللهِ إنك لصادق، هذا التصديق، هذا المقام الذي ناله هذا الصحابيُّ الجليل ما سبقه إليه أحد، أبو بكر الصديق.
ذات يوم وأبو بكر في دار سعد زاره النبي عليه الصلاة و السلام، و فوجئ بالنبيّ، فقال النبي الكريم: يا أبا بكر إن الله أذِن لي بالهجرة، وكان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام و عليهم رضوان الله قد سبقوه إلى المدينة مهاجرين، وبقي النبي بمكة ينتظر أن يأذن، وبقي أبو بكر بجانبه، والآن وهو يسمع النبأ الجديد يكاد قلبه يطير من الفرح، و يقول: الصحبة يا رسول الله، فيجيبه النبي الكريم: الصحبة يا أبا بكر.
إن الهجرة في حد ذاتها رحلة عافية، فهي اطراح لأذى قريش و لمؤامراتها التي لا تنتهي و لقد هاجر المسلمون إلى المدينة، و لكن الهجرة بالنسبة للرسول خاصة مخاطرة ما مثلها مخاطرة، إن قريشا إذا كانت قد تركت المسلمين يغادرون مكة في سلام فما هي أبدا تاركة رسول الله، لقد تحدث زعماؤها في هذا كثيرا، و انتهوا إلى أنهم إذا تركوهم ليخرجوا إلى المدينة ويرفعوا في سمائها رايتهم، فلسوف يجمع العرب حوله، ثم يغزو بهم قريشا، ومن ثَم قرروا أن يظفروا برأس رسول الله، و لعلهم إنما تركوا المسلمين ومعهم عمر بن الخطاب لعلهم تركوهم يهاجرون ليبقى النبي بينهم بلا أنصار وحيدا، حتى تأتي لهم الفرصة في الخلاص منه ورسموا خطة دقيقة جدا، سمحوا لأصحابه أن يهاجروا، ضعّفوا مركزه، وضعّفوا أجنحته، وهم ينتظرونه، فإذا همّ بالهجرة قتلوه، فالهجرة إذًا مغامرة، فالهجرة إذًا قتل، وسيدنا الصديق يعرف هذا أتم المعرفة، فلماذا فرح بهذه الصحبة، يغامر بحياته، و لكنه الإيمان، بماذا آمن هذا الصحابي ؟ قال: آمن هذا الصحابي أن الله لم يلق كلمته عن طريق النبي الكريم إلى الناس و في مشيئته أن يتركها لقريش تفعل بعها ما تشاء، هذا دين الله، الواحد لا يحاول أن يطفئ نور الله، هذا دين الله عز وجل، الله سبحانه و تعالى هو الذي يحمي دينه، فإيمان سيدنا الصديق أن ربنا عز وجل هو الذي أنزل هذه الرسالة على هذا النبي الكريم، أيُعقل أن يتركها ألعوبةً بين كفار قريش ؟ إنه سيحميها،
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
[سورة المائدة]
سيدنا الصديق فهم، هذا دين الله عز وجل وهذه رسالته، يتركها ألعوبة بين أيدي كفار قريش، وثانيا الإيمان مسؤولية و تضحية، الإيمان نزهة ؟ الإيمان وليمة، الإيمان حفلة طرب الإيمان أناشيد، الإيمان طعام و شراب، الإيمان ولائم، الإيمان عمرة بالطائرة و فندق خمس نجوم، ماذا أكلنا أكلا، و كم انبسطنا، الخيمة مكيفة، والفندق مكيف، الإيمان صار كيفا، الإيمان طريق شائك، الإيمان جهد، و الإيمان امتحان، الإيمان ابتلاء، و الإيمان عطاء، الإيمان صعوبات، الإيمان عقبات، الإيمان خصوم، الإيمان كيد، الإيمان يكون أحيانا قهرا، سيدنا الصديق لماذا فرح بالصحبة ؟ لأنه أولا يؤمن إيمانا قطعيا أن هذا الدين دين الله، و أن الله هو الذي يحفظه، و لن تقوى قوة على وجه الأرض أن تقوِّضه، و الشيء الثاني الإيمان تضحية، و ليس هناك مناسبة أجل وأعظم من أن يرافق النبي في هذه الهجرة، فمهما تكن العواقب فلن يكون ثمة سوى طريق واحد لا يعرف أبو بكر سواه، هو طريق أداء الواجب الذي يمليه عليه إيمانه، وطريق التضحية الذي يتطلبها الإيمان.
فحين آوى النبي عليه الصلاة و السلام إلى الغار ليختفي من قوة المشركين التي تطارده كانت تلهث هذه القوة وراءهما طمعا في نيل الجائزة التي أهدتها قريش لمن يأتيها بالنبي حيًّا أو ميتا، جائزة ضخمة جدا، مائتا ناقة أو أربعمائة ناقة، عدد كبير، الناقة ثمنها الآن خمسون أو ستون ألف، ثمن الناقة سبعون ألف، سمعت أن البغل ثمنه سبعون ألف فكيف الناقة، هكذا سمعت والله، فسيدنا الصديق فحين أويا إلى الغار النبي والصديق و اقترب المطاردون من الغار وراحوا يطوفون حوله، فزع أبو بكر تحت هول هذا السؤال الذي ألحّ عليه، ماذا لو نظر أحدهم إلى جوف الغار ؟ انتهى الإسلام، قُتل النبي و قتل الصديق و انتهى الإسلام، ماذا لو نظر أحدهم إلى جوف الغار، ماذا لو ظفر المجرمون برسول الله ؟ حينئذ كان الله يدّخر للصديق الدرس الأخير الذي سيكمِّل إيمانه و يبلغ به أعلى مستويات الإيمان المتاحة لبشر، لقد ألقى على النبي هذا السؤال: لو نظر أحدهم إلينا لرآنا، ولم يكد بصره يلتقي بمحيّا رسول الله حتى رأى عجبا، رأى وجها متهللا كأنما أُلقيت عليه آنئذ كل ما في الحياة من سكينة و طمأنينة وأمل، ما هذا، واحد مطارَد ملاحَق مهدور دمه، لو أن الكفار لمحوه لقتلوه فورا، وحام حول الغار ولو فعل أحدهم هكذا، لو ألقى نظره في الغار انتهى الإسلام، نظر إلى الرسول هادئ، هدوء و سكينة ووقار تهلل، هذا نبي وهذا صدِّيق، لماذا كان هذا دون الأنبياء ؟ لأن مرتبته أقلّ، ورأى راحة الرسول تلامس صدره فكأنما تسكب فيه الطمأنينة سكبا، فقال له النبي الكريم: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، كن مع الله تر الله معك، وقال تعالى:
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾
[سورة المائدة]
يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين اللهُ ثالثهما ؟ هذا الإيمان، إذا كان الله معك ليس هناك جهة في الكون بإمكانها أن تنال منك شيئا، وإذا تخلى الله عنك زوجتك التي هي أقرب الناس إليك تتخلى عنك، و تسمعك كلاما طعن الخناجر أهون منه، إذا ربنا عز وجل أراد أن يؤدِّب الإنسان عن طريق زوجته، وسكن أبو بكر، و في رواية أخرى لم ترِد في هذا الكتاب أنه يبدو أن أحد المطاردين نظر إلى الغار فوقعت عينه على عين أبي بكر، عينا بعين، ففزع الصدِّيق رضي الله عنه، فقال: ير رسول الله لقد رأونا، فقال له النبي الكريم: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)﴾
[سورة الأعراف]
يقولون: الله يعمي عنك، هذه صحيحة، صدقوها هذه " الله يعمي عنك " لم ير المخالفة، لم يرها، كيف وقعها ؟ وقعها، هذه قصة تتكرر دائما، إذا أراد اللهُ أن يعميَ عنك أعمى عنك، لا شيء، عاملْه و أطعه و انظر، تقرّب منه وانظر كيف تنجو من أصعب المشكلات، من أكبر الورطات، ينجيك الله عز وجل، لقوله تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
[سورة الأنبياء]
دائما في كل زمان و مكان، في كل عصر و مصر، في كل وقت،
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
[سورة الأنبياء]
موقف ثالث من مواقف هذا الصحابي الجليل ؛ في السنة الخامسة للهجرة، و في شهر ذي القعدة غادر النبي عليه الصلاة والسلام المدينة و معه عدد كبير من المسلمين قاصدين مكة ليعتمروا، و ساق الهدي أمامه لتعلم قريش أن النبيّ جاء زائرا للبيت الحرام، و لم يأت مقاتلا، بيد أن نبأ هذه الزيارة كان قد سبق إلى قريش بطريقة ما، فحشدت جموعها، و صمّمت على منع النبي و صحبه من دخول مكة وزيارة الكعبة، ونزل النبي عليه الصلاة و السلام عند الحديبية، وأوفد إلى قريش عثمان بن عفان، ليشرح لهم سبب مجيئه، وأوفدت قريش سهيل بن عمرو ليفاوض النبيَّ في الأمر، وانتهت المفاوضة إلى عقد ميثاق يعود المسلمون بمقتضاه إلى المدينة، مرجئين زيارة البيت الحرام إلى العام القادم، كما يتضمن الميثاق التزام المسلمين بأن يردوا إلى قريش من يأتيهم مسلما، معاهدة فيها إجحاف، ولا ترد قريش من المسلمين من يعود إليها مرتدا، إذا مسلم ارتد لقريش لها الحقُّ ألاّ ترده، و إذا كان مشرك آوى إلى النبي لا بد أن يردّه، و السنة ليس هناك زيارة، ارجعوا، ولم يكد الكاتب ينتهي من كتابة الميثاق ولم يمهره النبيُّ بخاتم النبوة بعد حتى فوجئ المسلمون بفتى يأتيهم صارخا مستغيثا، يرصف في قيوده، و يجرجر أغلاله ويقول - هذا الفتى أبو جندل - وهو ابن سهيل بن عمرو، ابن المفاوض، مندوب قريش، يقول هذا الرجل مستغيثًا برسول الله: اقبلوني، فقال النبي لسهيل: اترك لنا جندلا، هذا اتركه لنا، لم نوقِّع بعد، فإنا لم ننجز العهد بعد، ما ختمنا، ألا يوجد في بروتوكول توقيع المعاهدات، هذا لم يوقَّع، وما كان لسهيل أن يترك ولده يذهب إلى الإيلام وهو واحد من زعماء قريش، فأصرّ على تسليمه، أو ينقض العهد كله، و تكون الحرب، و صاح أبو جندل: يا معشر المسلمين، أتتركوني أُردُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلما، ألا تبصرون ما على جسمي من عذاب في الله ؟ ومادام النبي بالكلمات السية: اصبر سيجعل الله لك مخرجا، لا إمكان، كان هذا المشهد أدهى وأكبر من أن تحتمله أعصاب المسلمين، فكيف يرجعون دون أن يزوروا البيت الحرام ؟ و كيف يسلِمون للعذاب مسلما جاء يستصرخ بهم و يستغيث ؟ سيدنا عمر فقدَ صوابه و اختل توازنه، فذهب إلى النبي، فقال: يا نبي الله ألستَ نبي الله حقا ؟ قال: بلى يا عمر، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا ؟ هذا الموقف المُهين، وهذه الاتفاقية المجحفة أجابه النبي يا عمر إني رسول الله، و لست أعصيه، وهو ناصري، قال عمر: أولم تعِدنا يا رسول الله - كان جريئا، ما وعدتنا - بأننا سنأتي البيت و نطوف به، رسول الله كان ذكيا جدا، قال: يا عمر أوقت هذا العام ؟ أنا وعدتك هذه السَّنة ؟ قال عمر: لا، قال: فإنك آتيه و مطَّوف به، انتظر، هذا الحوار يكشف عن حدّة الأزمة التي عاناها المسلمون، و لكن ما شأن أبي بكر ؟ ما هذا الإنسان، الأعصاب الهادئة و التصديق، إن أبا بكر هو أستاذ في فن الإيمان، في ذلك اليوم العصيب، كما سيظل أستاذه في كل حين.
سيدنا عمر كان يقول: ما أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر " حينما وقف على المنبر بعد وفاة سيدنا الصدِّيق بدأ يخطب فوقف عن الخطبة، ونزل درجة، وقال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر "، فسيدنا عمر وقف موقف أديب من رسول الله ولم يكمل النقاش، لكن نفسه تغلي، فانصرف من عند رسول الله وهو لا يزال يعاني مشاعره القلقة، وقد ردّه الأدب مع الرسول عن الاسترسال في المناقشة، والإلحاح في السؤال، بيد أنه يحس في نفسه حاجة إلى مزيد من الوضوح، فمع من يتحدث ؟ لا أحد سوى أبي بكر، هذا أعلى واحد، إذا واحد من المؤمنين الصادقين وقع في مشكلة و له أخ أقدم منه و تمرّس الإيمان يستشيره و يأنس له، هذه كذلك تُعلِّمنا أشياء كثيرة، أحيانا تحلُّ المشكلة بينك و بين إخوانك، أنت حديث عهد بالإيمان واجهت مشكلة، عندك أخ من خمس سنوات في المسجد صادق ومستقيم، و له مكانته اسأله و استشره، استأنس برأيه، اعرض القضية عليه، استعن به، فمضى سيدنا عمر إلى سيدنا الصديق، وهو يجتز صفوف المسلمين و حلقاتهم حتى لمحه في أقصى الجمع، تغمره طمأنينة عجيبة، مطمئن و مرتاح، ألقى عليه ذات الأسئلة التي ألقاها على النبي الكريم منذ لحظات، و تلقى من أبي بكر ذات الإجابات التي سمعها من رسول الله، و انتهى الحوار بينهما على الشكل التالي ؛ يقول عمر: فأخذ أبو بكر بيدي و جذبها في قوة - أحيانا لا بد من حزم - وقال لي: أيها الرجل إنه رسول الله و لن يعصيه و إن الله ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على حق، فأنزل الله السكينة على قلبي و علمت أنه على حق
هذا موقف، لماذا كان هذا الرجل " ما طلعت شمس على رجل بعد نبيٍّ أفضل من أبي بكر " قريب جدا من مرتبة النبوة.
إن شاء الله نتابع الحديث عنه، و الحديث عنه واللهِ يعطِّر المجالس، والحديث عن أصحاب رسول الله يملأنا ثقة بالله عز وجل، يملأنا حبورا، يملأها سعادة،
((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ))
[رواه البخاري]
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ))
[رواه الترمذي]
(( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا))
من نحن حتى نتجرّأ على أصحاب رسول الله ؟
إن شاء الله في درس قادم نتابع الحديث عن هذا الصحابي الجليل الذي هو الصحابي الأول بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم
والحمد لله رب العالمين