القرضاوي: النقاب مباح و ليس فرضا ولا بدعة
فتوى العلامة القرضاوي بشان النقاب التي أصدرها في الدوحة في جمادى الأولى 1416 هـ - أكتوبر 1995 م. فالحاجة إليها مازالت مستمرة لا للانتصار لرأي على رأي ولكن ليتعلم طلبة العلم كيف يكون الاستدلال بالنصوص وكيف يكون المنهج الصحيح في الإفتاء والله الهادي إلى سواء السبيل .
سؤال إلى الإمام:
* قرأنا ما كتبته، دفاعًا عن النقاب، ردًّا على حملات الذين قالوا: إن النقاب بدعة دخيلة على المجتمع الإسلامي، وليس من الإسلام في شيء، وبينت أن القول بوجوب لبس النقاب على المرأة رأي موجود داخل الفقه الإسلامي، فأنصفت النقاب والمنقبات، برغم ما نعلم أن رأيك هو عدم وجوب النقاب.
والآن نريد منك كما أنصفت (المنقبات) من المتبرجات والمتكشفات، ومن دعاة التبرج والتكشف أن تنصفنا نحن (المحجبات) من أخواتنا (المنقبات) وإخوانهم من دعاة (النقاب) الذين لا يفتأون يشنون علينا الغارة ما بين الحين والحين، لأننا لا نغطي الوجوه، وهي مظنة الفتنة، ومجمع الحسن، وأننا نخالف القرآن والسنة وهدي السلف بكشفنا لوجوهنا.
وربما أصابك أنت شخصيًّا من هذه الغارة رذاذ، لنصرتك للحجاب لا للنقاب، وكذلك فـضيلة الشـيخ محمد الغزالي الذي رد عليه بعـض العلماء في بعـض صحف الخليج.
نرجـو ألا تحيلنا إلـى مـا كتبته مـن قبل في كتابك (الحـلال والحـرام) وفي كتاب (فتاوى معاصرة) وإن كان فيهما الكفاية، ولكنا نطمع في مـزيد مـن البيان، إقامـة للحجة، وتوضيحًا للمحجة، وإزاحة للعذر، وقطعًا للشك باليقين، وحسمًا للجدل المستمر في هذه القـضية، جعل الله الحق على لسانك وقلمك.
مجموعة من الفتيات المحجبات
الإجابة:
لم يدع لي بناتي وأخواتي العزيزات عذرًا في السكوت، والاكتفاء بما كتبته من قبل، وأنا أعلم أن الجدل في هذه القضايا الخلافية لن ينتهي بمقالة تدبج، أو بحث يحرر، أو بكتاب يؤلف.
وما دامت أسباب الاختلاف قائمة، فلن يزول الاختلاف بين الناس وإن كانوا مسلمين متدينين مخلصين.
بل قد يكون التدين والإخلاص أحيانًا من أسباب حدة الخلاف ؛ حيث يتحمس كل طرف لرأيه الذي يعتقد أنه الحق، وأنه الدين الذي يحاسب عليه ثوابًا أو عقابًا.
سيظل الاختلاف قائمًا ما دامت النصوص نفسها التي تستنبط منها الأحكام قابلة للاختلاف في ثبوتها ودلالتها، وما دامت أفهام البشر متفاوتة في القدرة على الاستنباط، ومدى الأخذ بظاهر النص، أو بفحواه، بالرخصة أو بالعزيمة،. بالأحوط أم بالأيسر.
سيظل الاختلاف قائمًا ما دام في الناس من يأخذ بشدائد ابن عمر، ومن يأخذ برخص ابن عباس، وما دام فيهم من يصلي العصر في الطريق، ومن لا يصليها إلا في بني قريظة.
ومن رحمة الله بنا أن هذا النوع من الاختلاف لا حرج فيه ولا إثم، والمخطئ فيه معذور، بل مأجور أجرًا واحدًا، بل هناك من يقول: لا مخطئ في هذه الاجتهادات الفرعية، بل كلٌّ مصيب.
وقد اختلف الصحابة ومن تبعهم بإحسان في فروع الدين، فما ضرهم ذلك، ووسع بعضهم بعضًا، وصلى بعضهم وراء بعض، دون نكير.
ومع إيماني بأن الخلاف سيظل قائمًا، لابد لي أن أستجيب إلى سؤال بناتي وأخواتي، وأعيد القول في الموضوع، زيادة في البيان، لعل الله يوفقني فيه لكلمة سواء، تقطع النزاع، أو على الأقل تخفف من حدته، وتهون من شدته فتريح ضمائر أهل الحجاب وتسهل الأمر على دعاة النقاب.
مذهب جمهور الفقهاء
وأود أن أبادر هنا، فأؤكد حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد ؛ لأنها عند أهل العلم معروفة غير منكرة، مشهورة غير مهجورة، وهي أن القول بعدم وجوب النقاب وبجواز كشف الوجه والكفين من المرأة المسلمة أمام الرجل الأجنبي غير المحرم لها، هو قول جمهور فقهاء الأئمة، منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم.
فلا وجه إذن للضجة المفتعلة، والزوبعة المصطنعـة، التي أثارها بعض المخلصين من غير أهل العلم، وبعض المتشددين من طلبة العلم، ضد ما قاله الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي، في بعض كتبه، أو بعض مقالاته، كأنما أتى ببدع من القول، أو جديد من الرأي، وما هو إلا قول الأئمة المعتبرين والفقهاء المعدودين.. كما سنبين بعد.. كما أنه القول الذي تعضده الأدلة والآثار، ويسنده النظر والاعتبار، ويؤكده الواقع في خير الأعصار.
مذهب الحنفية
ففي " الاختيار " من كتب الحنفية يقول: (ولا ينظر إلى الحرة الأجنبية، إلا إلى الوجه والكفين، إن لم يخف الشهوة.. وعن أبي حنيفة: أنه زاد القدم، لأن في ذلك ضرورة للأخذ والإعطاء، ومعرفة وجهها عند المعاملة مع الأجانب، لإقامة معاشها ومعادها، لعدم من يقوم بأسباب معاشها.
قال: والأصل فيه قوله تعالى: (ولا يُبْدِين زِيَنَتَهُنَّ إلا ما ظَهَـر منها) قال عامة الصحابة: الكحل والخاتم، والمراد موضعهما، كما بينا أن النظر إلى نفس الكحل والخاتم والحلي وأنواع الزينة حلال للأقارب والأجانب، فكان المراد موضع الزينة، بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه.
قال: وأما القدم، فروي أنه ليس بعورة مطلقًا لأنها تحتاج إلى المشي فيبدو، ولأن الشهوة في الوجه واليد أكثر، فلأن يحل النظر إلى القدم كان أولى.
وفي رواية: القدم عورة في حق النظر دون الصلاة). [1]
مذهب المالكية
وفي الشرح الصغير للدردير المسمى " أقرب المسالك إلى مذهب مالك ":
(وعورة الحرة مع رجل أجنبي منها أي ليس بمحرم لها جميع البدن غير الوجه والكفين.. وأما هما فليسا بعورة).
وقال الصاوي في حاشيته معلقا: (أي فيجوز النظر لهما لا فرق بين ظاهرهما وباطنهما، بغير قصد لذة ولا وجدانها، وإلا حرم.قال: وهل يجب عليها حينئذ ستر وجهها ويديها ؟.وهو الذي لابن مرزوق قائلا: وهو مشهور المذهب.
أو لا يجب عليها ذلك، وإنما على الرجل غض بصره؟ وهو مقتضى نقل المواق عن عياض.وفصل زرُّوق في شرح الوغليسية بين الجميلة، فيجب، وغيرها فيستحب). [2]
مذهب الشافعية
وقال الشيرازي صاحب " المهذب " من الشافعية.
(وأما الحرة فجميع بدنها عورة، إلا الوجه والكفين (قال النووي: إلى الكوعين لقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال ابن عباس: وجهها وكفيها (قال النووي " في المجموع ": هذا التفسير المذكور عن ابن عباس قد رواه البيهقي عنه وعن عائشة رضي الله عنهم)، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- " نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب " (الحديث في صحيح البخاري، عن ابن عمر رضي الله عنهما : " لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين) ولو كان الوجه والكف عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء، وإلى إبراز الكف للأخذ والعطاء، فلم يجعل ذلك عورة).
وأضاف النووي في شرحـه للمهذب " المجموع ": (إن مـن الشافعية مـن حكى قولاً أو وجها أن باطن قدميها ليس بعورة، وقال المزني: القدمان ليستا بعورة، والمذهب الأول). [3]
مذهب الحنابلة
وفي مذهب الحنابلة نجد ابن قدامة في " المغنى" [4].يقول (لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان:
واختلف أهل العلم، فأجمع أكثرهم على أن لها أن تصلي مكشوفة الوجه، وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة.
وقال أبو حنيفة: القدمان ليستا من العورة، لأنهما يظهران غالبًا فهما كالوجه. وقال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الوجه والكفين ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء.
وقال بعض أصحـابنا: المـرأة كلهـا عـورة ؛ لأنه قد روي في حـديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (المرأة عورة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة لأنه مجمع المحاسن، وهذا قول أبي بكر الحارث بن هشام، قال: المرأة كلها عورة حتى ظفرهـا).ا هـ كـلام المغني.
مذاهـب أخـرى
وذكر الإمام النووي في " المجموع " في بيان مذاهب العلماء في العورة: (أن عورة المرأة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين، وبه قال مع الشافعي مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وأبو ثور وطائفة، ورواية عن أحمد.
وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: قدماها أيضًا ليسا بعورة.
وقال أحمد: جميع بدنها إلا وجهها فقط...) إلخ. [5]
وهو مذهب داود أيضًا كما في " نيل الأوطار". [6]
أما ابن حزم فيستثني الوجه والكفين جميعًا كما في " المحلى".
وسنذكر بعض ما استدل به في موضعه.
وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين كما هو واضح من تفسيرهم لمعنى: (ما ظهر منهـا) في سورة النور.
أدلة القائلين بجواز كشف الوجه والكفين:
نستطيع أن نذكر أهم الأدلة الشرعية التي استند إليها القائلون بعدم وجوب النقاب وجواز كشف الوجه واليدين وهم جمهور الأئمة فيما يأتي، وفيها الكفاية إن شـاء الله.
1ـ تفسير الصحابة لقوله: (إلا ما ظهر منها):
إن جمهور العلماء من الصحابة ومن تبعهم بإحسـان فسـروا قوله تعالى في سـورة النور: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهـر منها) بأنه الوجه والكفان، أو الكحل والخاتم وما في معناهما من الزينة. وقد ذكر الحافظ السيوطي في كتابه "الدر المنثور في التفسير بالمأثور " جملة وفيرة من هذه الأقوال.
فأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الكحل والخاتم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير، وعبد بن حمـيد، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ولا يبدين زينتهـن إلا ما ظهـر منها) قال: الكحل والخـاتم والقرط، والقلادة.
وأخـرج عبد الرزاق وعبد بـن حميد عـن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: هو خضاب الكف، والخاتم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: وجهها، وكفاها، والخاتم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: رقعة الوجه، وباطن الكف.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عن الزينة الظاهرة فقالت: القلب والَفَتخ، وضمت طرف كمها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الوجه وثغرة النحر.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الوجه والكف.
وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الكفان والوجه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: المسكتان والخاتم والكحل.
قال قتادة: وبلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إلا إلى ها هنا ويقبض نصف الذراع.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير، عن المسـور بن مخرمـة في قوله: (إلا ما ظهـر منها) قال: القلبين يعني السوار، والخاتم، والكحل.
وأخرج سعيد وابن جـرير عن ابـن جـريج قـال: قـال ابن عباس في قـوله تعـالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهـر منهـا) قال: الخاتم والمسـكة، قال ابن جريج وقالت عائشة رضي الله عنها: "القلب، والفتخة".قالت عائشة: دخلت على ابنة أخي لأمي، عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأعرض.. فقالت عائشة رضي الله عنها: إنها ابنة أخي وجارية فقال : " إذا عركـت المرأة لم يحـل لها أن تظهر إلا وجههـا وإلا ما دون هذا " وقبض على ذراع نفسـه، فترك بين قبضـته وبين الكـف مثل قبضة أخـرى ا.هـ. [7]
وقد خالف ابن مسعود هنا ابن عباس وعائشة وأنسًا رضي الله عنهم، فقال ما ظهر منها الثياب والجلباب.
ورأيي أن تفسير ابن عباس ومن وافقه هو الراجح ؛ لأن الاستثناء في الآية: (إلا ما ظهر منها)بعد النهي عن إبداء الزينة، يدل على نوع من الرخصة والتيسير، وظهور الرداء والجلباب وما شابهه من الثياب الخارجية ليس فيه شيء من الرخصة أو اليسر ورفع الحرج، لأن ظهورهما أمر ضروري وقسري ولا حيلة فيه.
ولهذا رجحه الطبري والقرطبي والرازي والبيضاوي وغيرهم، وهو قول الجمهور.ورجح ذلك القرطبي بأنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعًا إليهما.
ويستأنس لذلك بالحديث الذي رواه أبو داود أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعليها ثياب رقاق فأعـرض عنها، وقال: "يا أسـماء، إن المـرأة إذا بلغت المحيـض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه.
والحديث لا تقوم به حجة وحده ؛ لما فيه من إرسال، وضعف الراوي عن عائشة كما هو معلوم، ولكن له شاهدًا من حديث أسماء بنت عميس، فيتقوى به، وبجريان عمل النـســاء عليـه في عهـد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته.. لهـذا حســنه المحـدِّث الألباني في كتبـه :" حجـاب المرأة المسلمة "، و" الإرواء " و " صحيح الجامع الصغير "، و " تخريج الحلال والحرام".
2 الأمر بضرب الخمار على الجيب لا على الوجه:
قوله تعالى في شأن المؤمنات: (وليـضربن بخمرهن على جيوبهن) فالخمر جمع خمار، وهو غطاء الرأس، و الجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الصدر من القميص ونحوه، فأمر النساء المؤمنات أن يسدلن ويلقين بخمرهن وأغطية رؤوسهن بحيث تغطى النحور والصدور، ولا يدعنها مكشوفة كما كان نساء الجاهلية يفعلن.
فلو كان ستر الوجه واجبًا لصرحت به الآية، فأمرت بضرب الخمر على الوجوه، كما صرحت بضربها على الجيوب، ولهذا قال ابن حزم بعد ذكر الآية الكريمة: (فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب، وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر، وفيه نص على إباحة كشف الوجه، لا يمكن غير ذلك أصلا). [8]
3ـ أمر الرجال بغض الأبصار:
أمر الرجال بغض أبصارهم في القرآن والسنة، كما قي قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون). (النور: 30).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اضمنوا لي ستًا أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأدوا إذا ائتمنتم، وغضوا أبصاركم.." الحديث.
وقوله لعلي: "لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة". [9]
وقوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج..." رواه الجماعة عن ابن مسعود.
فلو كانت الوجوه كلها مستورة، وكان كل النساء منقبات، فما وجه الحث على الغض من الأبصار؟ وماذا عسى أن تراه الأبصار إذا لم تكن الوجوه سافرة يمكن أن تجذب وتفتن؟ وما معنى أن الزواج أغض للبصر إذا كان البصر لا يرى شيئًا من النساء؟.
4ـ آية: (ولو أعجبك حُسْنُهن):
يؤكد ذلك قوله تعالى لرسوله: (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن). (الأحزاب: 52).
فمن أين يعجبه حسنهن، إذا لم يكن هناك مجال لرؤية الوجه الذي هو مجمع المحاسن للمرأة باتفاق؟.
5ـ حديث: "إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته":
تدل النصوص والوقائع الكثيرة على أن عامة النساء في عصر النبوة لم يكن منقبات إلا ما ندر، بل كن سافرات الوجوه.
من ذلك: ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود، عن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى امرأة فأعجبته، فأتى زينب - زوجه - وهي تمعس منيئة - أي تدبغ أديمًا - فقضى حاجته، وقال:
"إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأت أهله، فإن ذاك يرد ما في نفسه". [10]
ورواه الدارمي عن ابن مسعود، وجعل الزوجة "سَوْدَة" وفيه قال: "أيما رجل رأى امرأة تعجبه، فليقم إلى أهله، فإن معها مثل الذي معها".
وروى أحمد القصة من حديث أبي كبشة الأنماري، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مرت بي فلانة، فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي فأصبتها. فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال". [11]
فسبب الحديث يدل على أن الرسول الكريم رأى امرأة معينة، فوقع في قلبه شهوة النساء، بحكم بشريته ورجولته، ولا يمكن أن يكون هذا إلا إذا رأى وجهها الذي به تعرف فلانة من غيرها، ورؤيته هي التي تحرك الشهوة البشرية، كما أن قوله: "إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته" إلخ.. يدل على أن هذا أمر ميسور ومعتاد.
6ـ حديث: "فصعد فيها النظر وصوبه":
ومن ذلك ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصعد فيها النظر وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت أنه لم يقض فيها شيئًا جلست.
ولو لم تكن سافرة الوجه، ما استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينظر إليها، ويطيل فيها النظر تصعيدًا وتصويبًا.
ولم يرد أنها فعلت ذلك للخطبة، ثم غطت وجهها بعد ذلك، بل ورد أنها جلست كما جاءت، ورآها بعض الحضور من الصحابة، فطلب من الرسول الكريم أن يزوجها إياه.
7ـ حديث الخثعمية والفضل بن عباس:
ما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، والفضل بن عباس رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وذكر الحديث وفيه "فأخذ الفضل يلتفت وكانت امرأة حسناء، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحول وجه الفضل من الشق الآخر". (لفظ النسائي "وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفضل فحول وجهه من الشق الآخر").
رأي ابن حزم
قال ابن حزم:
فلو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها -عليه السلام- على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء؟ فصح كل ما قلنا يقينا! والحمد لله كثيرًا.
وروى الترمذي هذه القصة من حديث علي رضي الله عنه، وفيه: ولوي - أي النبي -صلى الله عليه وسلم- عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: "رأيت شابًا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما".
وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح). [12]
قال العلامة الشوكاني:
وقد استنبط منه ابن القطان جواز النظر عند أمن الفتنة، حيث لم يأمرها بتغطية وجهها، فلو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل، ولو لم يكن ما فهمه جائزًا ما أقره عليه -صلى الله عليه وسلم-.
قال في "نيل الأوطار":
(وهذا الحديث يصلح للاستدلال به على اختصاص آية الحجاب السابقة يعني آية: (وإذا سألتموهن متاعًا فسئلوهن من وراء حجاب) بزوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن قصة الفضل في حجة الوداع، وآية الحجاب في نكاح زينب في السنة الخامسة من الهجرة..). [13]
8ـ أحاديث أخرى:
ومن الأحاديث التي لها دلالتها هنا ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.. إلى أن قال: ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال: "تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم"! فقامت امرأة من سطة [14] النساء سفعاء [15] الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاة - الشكوى - وتكفرن العشير - أي الزوج- ". قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن.
فمن أين لجابر - رضي الله عنه - أن يعرف أنها سفعاء الخدين إذا كان وجهها مغطى بالنقاب؟.
وروى البخاري قصة صلاة العيد عن ابن عباس أيضًا: أنه شهد العيد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه -عليه السلام- خطب بعد أن صلى، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن، وأمرهن أن يتصدقن، قال: "فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال".
قال ابن حزم: (فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى أيديهن فصح أن اليد من المرأة، والوجه، ليسا عورة). [16]
وروى الحديث مسلم وأبو داود - واللفظ له - عن جابر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام يوم الفطر، فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- نزل، فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه تلقي فيه النساء الصدقة، قال: تلقي المرأة فتخها، ويلقين ويلقين. [17]
قال أبو محمد بن حزم: (الفتخ خواتيم كبار كُنَّ يلبسنها في أصابعهن، فلولا ظهور أكفهن ما أمكنهن إلقاء الفتخ). [18]
ومنها ما جاء في الصحيحين: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كن نساء مؤمنات يشهدن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الفجر، متلحفات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يُعرفن من الغَلَس".
وهو يدل بمفهومه على أنه يعرفن في غير حالة الغلس، وإنما يعرفن إذا كن سافرات الوجوه.
ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه أن سُبَيْعة بنت الحارث كانت تحت سعد بن خولة وهو ممن شهد بدرًا، وقد توفي عنها في حجة الوداع، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت - خرجت من نفاسها - تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، وقال لها: "ما لي أراك متجملة؟ لعلك تريدين النكاح! إنك والله ما أنت بناكحة، حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر"، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت على ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسألته عن ذلك، فأفتاني أني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي.
فدل هذا الحديث على أن سبيعة ظهرت متجملة أمام أبي السنابل، وهو ليس بمحرم لها، بل هو ممن تقدم لخطبتها بعد. ولولا أنها سافرة ما عرف إن كانت متجملة أم لا.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أن رجلاً مرت به امرأة فأحدق بصره إليها. فمر بجدار، فمرس وجهه، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووجهه يسيل دمًا. فقال: يا رسول الله إني فعلت كذا وكذا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله بعبد خيرًا عجل عقوبة ذنبه في الدنيا، وإذا أراد به غير ذلك أمهل عليه بذنوبه، حتى يوافي بها يوم القيامة، كأنه عَيْر". [19]
فدل هذا على أن النساء كن سافرات الوجوه، وكان منهن من تلفت بحسنها أنظار الرجال. إلى حد الاصطدام بالجدار، وحتى يسيل وجهه دمًا.
9ـ الصحابة يستغربون لبس النقاب:
بل ثبت في السنة ما يدل على أن لبس المرأة للنقاب إذا وقع في بعض الأحيان، كان أمرًا غريبًا يلفت النظر، ويوجب السؤال والاستفهام.
روى أبو داود عن قيس بن شماس، رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقال لها: أم خلاد، وهي منتقبة [20] ، تسأل عن ابنها، وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟! فقالت: إن أُرْزَأَ ابني فلن أُرْزَأَ حيائي!.. الحديث. [21]
ولو كان النقاب أمرًا معتادًا للنساء في ذلك الوقت ما كان هناك وجه لقول الراوي: أنها جاءت وهي منتقبة، وما كان ثمت معنى لاستغراب الصحابة وقولهم لها: "جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟".
ورد المرأة يدل على أن حياءها هو الذي دفعها إلى الانتقاب، وليس أمر الله ورسوله، ولو كان النقاب واجبًا شرعيًا، لأجابت بغير هذا الجواب، بل ما صدر السؤال أصلاً، فالمسلم لا يسأل: لماذا أقام الصلاة، أو آتي الزكاة، وفي القواعد المقررة: ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته.
10ـ ضرورة التعامل توجب معرفة الشخصية:
إن ضرورة تعامل المرأة مع الناس في أمور معاشها يوجب أن تكون شخصيتها معروفة للمتعاملين معها، بائعة أو مشترية، أو موكلة، أو وكيلة، أو شاهدة أو مشهودًا لها أو عليها، ومن ثم نجد أن الفقهاء مُجْمِعون على أن المرأة أن تكشف عن وجهها إذا مثلت أمام القضاء، حتى يتعرف القاضي والشهود والخصوم على شخصيتها. ولا يمكن التعرف على شخصيتها والحكم بأنها فلانة بنت فلان، ما لم يكن وجهها معروفًا للناس من قبل، وإلا فإن كشف وجهها في مجلس القضاء لا يفيد شيئًا.
أدلة القائلين بوجوب النقاب:
تلك هي أبرز أدلة الجمهور، فما أدلة من خالفهم، وهم قلة؟.
الحق أني لم أجد للقائلين بوجوب لبس النقاب، ووجوب تغطية الوجه واليدين دليلاً شرعيًا صحيح الثبوت، صريح الدلالة، سالمًا من المعارضة، بحيث ينشرح له الصدر ويطمئن به القلب.
وكل ما معهم متشابهات من النصوص تردها المحكمات وتعارضها الأدلة الواضحات.
وأذكر هنا أقوى ما استدلوا به، وأردُّ عليه:
آية: "يدنين عليهن من جلابيبهن":
أ- من ذلك: ما جاء عن بعض المفسرين في قوله تعالى في "آية الجلباب" في سورة الأحزاب ، وهي قوله تعالى" (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين). (الأحزاب: 59).
فقد روي عن عدد من مفسري السلف تفسير إدناء الجلابيب عليهن، أنهن يسترن بها جميع وجوههن، بحيث لا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة يبصرن بها.
وممن روي عنه ذلك ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم، ولكن ليس هناك اتفاق على معنى" الجلباب" ولا على معنى "الإدناء" في الآية.
والعجب أن يروى هنا عن ابن عباس، ما روي عنه خلافه في تفسير آية سورة النور: (إلا ما ظهر منها)!.
وأعجب منه أن يروي بعض المفسرين هذا وذاك، ويختاروا في سورة الأحزاب ما رجحوا عكسه في سورة النور!.
وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم في حديث أم عطية في صلاة العيد: إحدانا لا يكون لها جلباب.. إلخ. قال: قال النضر بن شميل: الجلباب ثوب أقصر - وأعرض - من الخمار، وهي المقنعة تغطي به المرأة رأسها، وقيل: هو ثوب واسع دون الرداء تغطي به صدرها وظهرها، وقيل: هو كالملاءة والملحفة. وقيل: هو الإزار، وقيل: الخمار. [22]
وعلى كل حال، فإن قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن) لا يستلزم ستر الوجه لغة ولا عرفًا، ولم يرد باستلزامه ذلك دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه. كما قال صاحب "أضواء البيان" رحمه الله.
وبهذا سقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
تفسير ابن مسعود لـ "ما ظهر منها"
ب - ما جاء عن ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) أن ما ظهر منها هو الرداء والثياب الظاهرة.
وهذا التفسير يعارضه ما صح عن غيره من الصحابة: ابن عباس وابن عمر وعائشة وأنس رضي الله عنهم، وعن غيرهم من التابعين: أنه الكحل والخاتم، أو مواضعهما من الوجه والكفين، وقد ذكر ابن حزم أن ثبوت ذلك عن الصحابة في غاية الصحة.
ويؤيد هذا التفسير ما ذكره العلامة أحمد بن أحمد الشنقيطي في (مواهب الجليل من أدلة خليل) قال: (من يتشبث بتفسير ابن مسعود: (إلا ما ظهر منها) يعني الملاءة - يجاب بأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وأنه فسر زينة المرأة بالحلي، قال تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) [23] فتعين حمل زينة المرأة على حليها. [24]
يؤكد ذلك ما ذكرناه من قبل: أن الاستثناء في الآية يفهم منه قصد الرخصة والتيسير، وظهور الثياب الخارجية كالعباءة والملاءة ونحوهما أمر اضطراري لا رخصة فيه ولا تيسير.
آية: "فاسألوهن من وراء حجاب"
ج - ما ذكره صاحب أضواء البيان من الاستدلال بقوله تعالى في نساء النبي: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن). (الأحزاب: 53).
فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) قرينة واضحة على إرادة الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين أن غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن.
ولكن المتأمل في الآية وسياقها، يجد أن "الأطهرية" المذكورة في التعليل ليست من الريبة المحتملة من هؤلاء وأولئك، فإن هذا النوع من الريبة بعيد عن هذا المقام. ولا يتصور من أمهات المؤمنين، ولا ممن يدخل عليهن من الصحابة دخول هذا اللون من الريبة على قلوبهم وقلوبهن، إنما الأطهرية هنا من مجرد التفكير في الزواج الحلال الذي قد يخطر ببال أحد الطرفين، بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما استدلال بعضهم بنفس قوله تعالى: (فاسألوهن من وراء حجاب) فلا وجه له لأنه خاص بنساء النبي كما هو واضح، وقول بعضهم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - لا يرد هنا؛ إذ اللفظ في الآية ليس عامًا. وقياس بعضهم سائر النساء على نساء النبي مردود، لأنه قياس مع الفارق، فإن عليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن، ولهذا قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء). (الأحزاب: 32).
حديث: "لا تنتقب المحرمة":
ما رواه أحمد والبخاري عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين" مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللواتي لم يحرمن.
ونحن لا نعارض أن يكون بعض النساء في غير حالة الإحرام، يلبسن النقاب والقفازين اختيارًا منهن، ولكن أين في هذا الدليل على أن هذا كان واجبًا؟؟ بل لو استدل بهذا على العكس لكان معقولاً، فإن محظورات الإحرام أشياء كانت في الأصل مباحة، مثل لبس المخيط والطيب والصيد ونحوها، وليس منها شيء كان واجبًا ثم صار بالإحرام محظورًا.
ولهذا استدل كثير من الفقهاء - كما ذكرنا من قبل - بهذا الحديث نفسه: أن الوجه واليدين ليسا عورة، وإلا لما أوجب كشفهما.
حديث عائشة في سدل الحجاب على وجهها في الحج:
هـ - ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي عن عائشة قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه".
والحديث لا حجة فيه لوجوه:
1ـ أن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وفيه مقال. ولا يحتج في الأحكام بضعيف.
2ـ أن هذا الفعل من عائشة رضي الله عنها لا يدل على والوجوب، فإن فعل الرسول نفسه لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره؟.
3ـ ما عرف في الأصول: أن وقائع الأحوال، إذا تطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، فسقط بها الاستدلال.
والاحتمال يتطرق هنا بأن يكون ذلك حكمًا خاصًا بأمهات المؤمنين من جملة أحكام خاصة بهن، كحرمة نكاحهن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما إلى ذلك. [25]
حديث: "المرأة عورة":
وـ ما رواه الترمذي مرفوعًا: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان" قال الترمذي: حسن صحيح [26]. وأخذ منه بعض الشافعية والحنابلة: أن المرأة كلها عورة ولم يستثنوا منها وجهًا ولا كفًا ولا قدمًا.
والصحيح أن الحديث لا يفيد هذه "الكلية" التي ذكروها، بل يدل على أن الأصل في المرأة هو التصون والستر، لا التكشف والابتذال، ويكفي لإثبات هذا أن يكون معظم بدنها عورة، ولو أخذ الحديث على ظاهره ما جاز كشف شيء منها في الصلاة، ولا في الحج، وهو خلاف الثابت بيقين.
وكيف يتصور أن يكون الوجه والكفان عورة، مع الاتفاق على كشفهما في الصلاة ووجوب كشفهما في الإحرام؟ وهل يعقل أن يأتي الشرع بتجويز كشف العورة في الصلاة، ووجوب كشفها في الإحرام؟.
على أن الحديث ما تفرد به الترمذي عن سائر أصحاب السنن ، ولم يصفه بالصحة بل اكتفى بوصفه بالحسن والغرابة ، وذلك لأن بعض رواته ليسوا في الدرجة العليا من القبول والتوثيق ، بل لا يخلو من كلام في حفظهم [27].
سد الذريعة
زـ وهناك دليل يلجأ إليه دعاة النقاب إذا لم يجدوا الأدلة المحكمة من النصوص، ذلكم هو سد الذريعة . فهذا هو السلاح الذي يشهر إذا فُلَّتْ كل الأسلحة الأخرى.
وسد الذريعة يقصد به منع شيء مباح، خشية أن يوصل إلى الحرام، وهو أمر اختلف فيه الفقهاء ما بين مانع ومجوز، وموسع ومضيق، وأقام ابن القيم في "إعلام الموقعين" تسعة وتسعين دليلاً على مشروعيته.
ولكن من المقرر لدى المحققين من علماء الفقه والأصول: أن المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها، فكما أن المبالغة في فتح الذرائع قد تأتي بمفاسد كثيرة تضر الناس في دينهم ودنياهم، فإن المبالغة في سدها قد تضيع على الناس مصالح كثيرة أيضًا في معاشهم ومعادهم.
وإذا فتح الشارع شيئًا بنصوصه وقواعده، فلا ينبغي لنا أن نسده بآرائنا وتخوفاتنا فنحل بذلك ما حرم الله، أو نشرع ما لم يأذن به الله.
وقد تشدد المسلمون في العصور الماضية تحت عنوان "سد الذريعة إلى الفتنة" فمنعوا المرأة من الذهاب إلى المسجد، وحرموها بذلك خيرًا كثيرًا، ولم يستطع أبواها ولا زوجها أن يعوضها ما يمنحها المسجد من علم ينفعها أو عظة تردعها، وكانت النتيجة أن كان كثير من النساء المسلمات يعشن ويمتن، ولم يركعن لله ركعة واحدة!.
هذا مع أن الحديث الصحيح الصريح يقول: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"! ، "وإذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن" ، "لا تمنعوا النساء النساء من الخروج إلى المساجد بالليل" [28].
وفي وقت من الأوقات دارت معارك جدلية بين بعض المسلمين وبعض حول جواز تعلم المرأة، وذهابها إلى المدارس والجامعات. وكانت حجة المانعين سد الذريعة، فالمرأة المتعلمة أقدر على المغازلة والمشاغلة بالمكاتبة والمراسلة، إلخ، ثم انتهت المعركة بإقرار الجميع بأن تتعلم المرأة كل علم ينفعها، وينفع أسرتها ومجتمعاتها، من علوم الدين أو الدنيا، وأصبح هذا أمرًا سائدًا في جميع بلاد المسلمين، من غير نكير من أحد منهم، إلا ما كان من خروج على آداب الإسلام وأحكامه.
ويكفينا الأحكام والآداب التي قررها الشرع، لتسد الذرائع إلى الفساد والفتن، من فرض اللباس الشرعي، ومنع التبرج، وتحريم الخلوة، وإيجاب الجد والوقار في الكلام والمشي والحركة. مع وجوب غض البصر من المؤمنين والمؤمنات، وفي هذا ما يغنينا عن التفكير في موانع أخرى من عند أنفسنا.
عرف بعض الأقطار الإسلامية بتغطية وجوه النساء:
ح - ومما يستدل به هنا كذلك العرف العام الذي جرى عليه المسلمون عدة قرون، بستر وجوه النساء بالبراقع والنُّقُب وغيرها.
وقد قال بعض الفقهاء:
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار.
وقد نقل النووي وغيره عن إمام الحرمين - في استدلاله على عدم جواز نظر المرأة إلى الرجل - اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات.
ونرد على هذه الدعوى بجملة أمور:
1ـ أن هذا العرف مخالف للعرف الذي ساد في عصر النبوة، وعصر الصحابة وخير القرون، وهم الذين يقتدي بهم فيهتدي.
2ـ أنه لم يكن عرفًا عامًا، بل كان في بعض البلاد دون بعض، وفي المدن دون القرى والريف، كما هو معلوم.
3ـ أن فعل المعصوم وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدل على الوجوب، بل على الجواز والمشروعية فقط، كما هو مقرر في الأصول، فكيف بفعل غيره؟.
ومن هنا لا يدل هذا العرف حتى لو سلمنا أنه عام على أكثر من أنهم استحسنوا ذلك، احتياطًا منهم، ولا يدل على أنهم أوجبوه دينًا.
4ـ أن هذا العرف يخالفه عرف حادث الآن، دعت إليه الحاجة، وأوجبته ظروف العصر، واقتضاه التطور في شئون الحياة ونظم المجتمع، وتغير حال المرأة من الجهل إلى العلم، ومن الهمود إلى الحركة، ومن القعود في البيت إلى العمل في ميادين شتى.وما بني من الأحكام على العرف في مكان ما، وزمان ما يتغير بتغيره.
شبهة أخيرة "فساد العصر:
وأخيرًا نعرض هنا لشبهة ذكرها بعض المتدينين الذين يميلون إلى التضييق على المرأة.
وخلاصتها: أننا نسلم بالأدلة التي أوردتموها بمشروعية كشف المرأة لوجهها كما نسلم بأن المرأة في العصر الأول عصر النبوة والراشدين كانت غير منقبة إلا في أحوال قليلة.
ولكن يجب أن نعلم أن ذلك العصر كان عصرًا مثاليًا، وفيه من النقاء الخلقي، والارتقاء الروحي، ما يؤمن معه أن تسفر المرأة عن وجهها، دون أن يؤذيها أحد. بخلاف عصرنا الذي انتشر فيه الفساد، وعم الانحلال، وأصبحت الفتنة تلاحق الناس في كل مكان فليس أولى من تغطية المرأة وجهها، حتى لا تفترسها الذئاب الجائعة التي تتربص بها في كل طريق.
وردي على هذه الشبهة بأمور:
أولاً: أن العصر الأول وإن كان عصرًا مثاليًا حقًا، ولم تر البشرية مثله في النقاء والارتقاء، لم يكن إلا عصر بشر مهما كانوا، ففيهم ضعف البشر، وأهواء البشر، وأخطاء البشر، ولهذا كان فيهم من زنى، ومن أقيم عليه الحد، ومن ارتكب ما دون الزنى، وكان فيه الفُسَّاق والمُجَّان الذين يؤذون النساء بسلوكهم المنحرف، وقد نزلت آية سورة الأحزاب التي تأمر المؤمنات بإدناء الجلابيب عليهن، حتى يعرفن بأنهن حرائر عفيفات فلا يؤذين: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).
وقد نزلت آيات في سورة الأحزاب تهدد هؤلاء الفسقة والماجنين إذا لم يرتدعوا عن تصرفاتهم الشائنة، فقال تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قيلاً. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً). (الأحزاب: 60، 61).
ثانيًا: أن أدلة الشريعة - إذا ثبت صحتها وصراحتها - لها صفة العموم والخلود، فليست هي أدلة لعصر أو عصرين، ثم يتوقف الاستدلال بها. ولو صح هذا لكانت الشريعة مؤقتة لا دائمة، وهذا ينافي أنها الشريعة الخاتمة.
ثالثا: أننا لو فتحنا هذا الباب، لنسخنا الشريعة بآرائنا، فالمشددون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ميسرة بدعوى الورع والاحتياط، والمتسيبون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ضابطة، بدعوى مواكبة التطور، ونحوها.
والصواب أن الشريعة حاكمة لا محكومة، ومتبوعة لا تابعة، ويجب أن نخضع نحن لحكم الشريعة، لا أن تخضع الشريعة لحكمنا: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن). (المؤمنون: 71).
اعتبارات مرجحة لقول الجمهور:
أعتقد أن الأمر قد اتضح بعد ما ذكرنا أدلة الفريقين، وتبين لنا أن رأي الجمهور أرجح دليلاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً.
ولكني أضيف هنا اعتبارات ترجيحية أخرى، تزيد رأي الجمهور قوة، وتريح ضمير كل مسلمة ملتزمة تأخذ به بلا حرج إن شاء الله.
لا تكليف ولا تحريم إلا بنص صحيح صريح
أولاً: إن الأصل براءة الذمم من التكاليف، ولا تكليف إلا بنص ملزم، لذا كان موضوع الإيجاب والتحريم في الدين مما يجب أن يشدد فيه، ولا يتساهل في شأنه، حتى لا نلزم الناس بما لم يلزمهم الله به، أو نحرم عليهم ما أحل الله لهم، أو نحل لهم ما حرم الله عليهم، أو نشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى.
ولهذا كان أئمة السلف يتورعون من إطلاق كلمة حرام إلا فيما علم تحريمه جزمًا كما نقل ذلك الإمام ابن تيمية، وذكرته في كتابي "الحلال والحرام في الإسلام".
والأصل في الأشياء والتصرفات العادية هو الإباحة، فما لم يوجد نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة على التحريم، يبقى الأمر على أصل الإباحة، ولا يطالب المبيح بدليل، لأن ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته، إنما المُطالب بالدليل هو المحرم.
وفي موضوع كشف الوجه والكفين لا أرى نصًا صحيحًا صريحًا يدل على تحريم ذلك، ولو أراد الله تعالى أن يحرمه لحرمه بنص بين يقطع كل ريب، وقد قال سبحانه: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) (الأنعام: 119)، ولم نجد هذا فيما فصله لنا جَلَّ شأنه، فليس لنا أن نشدد فيما يسر الله فيه، حتى لا يقال لنا ما قيل لقوم حرموا الحلال في المطعومات: (قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون). (يونس: 59).
تغير الفتوى بتغير الزمان:
ثانيًا: إن المقرر الذي لا خلاف عليه كذلك: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.
وأعتقد أن زماننا هذا الذي أعطى للمرأة ما أعطى، يجعلنا نتبنى الأقوال الميسرة، التي تدعم جانب المرأة، وتقوي شخصيتها.
فقد استغل خصوم الإسلام من المنصرين والماركسيين والعلمانيين وغيرهم سوء حال المرأة في كثير من أقطار المسلمين، ونسبوا ذلك إلى الإسلام نفسه، وحالوا تشويه أحكام الشريعة وتعاليمها حول المرأة، وصوروها تصويرًا غير مطابق للحقيقة التي جاء بها الإسلام.
ومن هنا أرى أن من مرجحات بعض الآراء على بعض في عصرنا: أن يكون الرأي في صف المرأة وإنصافها وتمكينها من مزاولة حقوقها الفطرية والشرعية، كما بينت ذلك في كتابي "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية".
عموم البلوى
وأفضل للمسلمة المشتغلة بالدعوة: ألا تنتقب؛ حتى لا تضع حاجزًا بينها وبين سائر المسلمات، ومصلحة الدعوة هنا أهم من الأخذ بما تراه أحوط.
ثالثًا: إن مما لا نزاع فيه: أن "عموم البلوى" من أسباب التخفيف والتيسير كما يعلم ذلك المشتغلون بالفقه وأصوله، ولهذا شواهد وأدلة كثيرة.
وقد عمت البلوى في هذا العصر، بخروج النساء إلى المدارس والجامعات وأماكن العمل، والمستشفيات والأسواق وغيرها، ولم تعد المرأة حبيسة البيت كما كانت من قبل. وهذا كله يحوجها إلى أن تكشف عن وجهها وكفيها، لضرورة الحركة والتعامل مع الحياة والأحياء، في الأخذ والعطاء والبيع والشراء، والفهم والإفهام.
وليت الأمر وقف عند المباح أو المختلف فيه من كشف الوجه والكفين، بل تجاوز ذلك إلى الحرام الصريح من كشف الذراعين والساقين، والرءوس والأعناق والنحور، وغزت نساء المسلمين تلك البدع الغربية "المودات" وغدونا نجد بين المسلمات الكاسيات العاريات، المميلات المائلات، اللائي وصفهن الحديث الصحيح أبلغ الوصف وأصدقه.
فكيف نشدد في هذا الأمر، وقد حدث هذا التسيب والتفلت أمام أعيننا؟ إن المعركة لم تعد حول "الوجه والكفين ": أيجوز كشفهما أم لا يجوز؟ بل المعركة الحقيقية مع أولئك الذين يريدون أن يجعلوا المرأة المسلمة صورة من المرأة الغربية، وأن يسلخوها من جلدها ويسلبوها هويتها الإسلامية، فتخرج كاسية عارية، مائلة مميلة.
فلا يجوز لأخواتنا وبناتنا " المنقبات " ولا إخواننا وأبنائنا من " دعاة النقاب " أن يوجهوا رماحهم وسهامهم إلى أخواتهم " المحجبات " ولا إلى إخوانهم من " دعاة الحجاب " ممن اقتنعوا برأي جمهور الأمة. وإنما يوجهونها إلى دعاة التكشف والعري والانسلاخ من آداب الإسلام. إن المسلمة التي التزمت الحجاب الشرعي كثيرًا ما تخوض معركة في بيئتها وأهلها ومجتمعها، حتى تنفذ أمر الله بالحجاب فكيف نقول لها: إنك آثمة عاصية، لأنك لم تلبسي النقاب؟
المشقة تجلب التيسير
رابعا: إن إلزام المرأة المسلمة - وخصوصًا في عصرنا - بتغطية وجهها ويديها فيه من الحرج والعسر والتشديد ما فيه، والله تعالى قد نفى عن دينه الحرج والعسر والشدة، وأقامه على السماحة واليسر والتخفيف والرحمة، قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج: 78)، (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185). (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). (النساء: 28).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: " بعثت بحنيفية سمحة " [29] فهي حنيفية في العقيدة، سمحة في الأحكام.
وقد قرر فقهاؤنا في قواعدهم: أن المشقة تجلب التيسير، وقد أمرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-أن نيسر ولا نعسر، ونبشر ولا ننفر، وقد بعثنا ميسرين ولم نبعث معسرين.
تنبيهات
على أن بعض التنبيهات مهمة ينبغي أن نذكرها:
1- أن كشف الوجه لا يعني أن تملأه المرأة بالأصباغ والمساحيق، وكشف اليدين لا يعني أن تطيل أظافرها، وتصبغها بما يسمونه (المانوكير) وإنما تخرج محتشمة غير متزينة ولا متبرجة، وكل ما أبيح لها هنا هو الزينة الخفيفة، كما جاء عن ابن عباس وغيره: الكحل في عينيها، والخاتم في يديها.
2- أن القول بعدم وجوب النقاب، لا يعني عدم جوازه، فمن أرادت أن تنتقب فلا حرج عليها، بل قد يستحب لها ذلك - في رأي بعض الناس ممن يميلون دائمًا إلى تغليب جانب الاحتياط - إذا كانت جميلة يخشى الافتتان بها، وخصوصًا إذا كان النقاب لا يعوقها ولا يجلب عليها القيل والقال. بل ذهب كثير من العلماء إلى وجوب ذلك عليها. ولكني لا أجد من الأدلة ما يوجب عليها تغطية الوجه عند خوف الفتنة؛ لأن هذا أ مر لا ينضبط، والجمال نفسه أمر ذاتي، ورب امرأة يعدها إنسان جميلة، وآخر يراها عادية، أو دون العادية.
وقد ذكر بعض المؤلفين أن على المرأة أن تستر وجهها إذا قصد الرجل اللذة بالرؤية أو وجدها!.
ومن أين للمرأة أن تعرف قصده للذة أو وجدانها؟؟.
وأولى من ستر الوجه أن تنسحب من مجال الفتنة وتبتعد عنه، إذا لاحظت ذلك.
3ـ أنه لا تلازم بين كشف الوجه وإباحة النظر إليه، فمن العلماء من جوز الكشف، ولم يجز النظر، إلا النظرة الأولى العابرة، ومنهم من أباح النظر إلى ما يباح كشفه لكن بغير شهوة فإذا وجد شهوة أو قصدها حرم النظر عليه وهو الذي أختار.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الهوامش
[1] (الاختيار لتعليل المختار، تأليف عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي 4/156).
[2] (حاشية الصاوي على الشرح الصغير بتعليق د. مصطفى كمال وصفي، ط دار المعارف بمصر، 1/289).
[3] (المجموع 3/167، 168).
[4] (المغني 1/1، 6، ط المنار)
[5] (المجموع للنووي 3/169).
[6] (نيل الأوطار 2/55 ط دار الجيل بيروت).
[7] (انظر: الدر المنثور للسيوطي في تفسير الآية 31 من سورة النور).
[8] (المحلى 3/279).
[9] (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن بريدة، وحسنه في صحيح الجامع الصغير 7953).
[10] (رواه مسلم في "النكاح" برقم 1403).
[11] (ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 235).
[12] (الحديث في أب