سورية المقاومة و ملامح العالم الجديد … غالب قنديل
يعيش العالم مخاض ولادة توازنات جديدة على جميع الأصعدة بعد انكسار مشروع الإمبراطورية الأميركية الذي بني على استراتيجية القوة في منع نشوء القوى العظمى المنافسة و في إخضاع القوى الإقليمية المستقلة.
من دمشق ومن الشرق تتبلور المعادلات التي بشر بها باحثون وخبراء غربيون تحدثوا عن انتقال الثروة العالمية من الغرب إلى الشرق ، وتنبأوا بصعود قوى جديدة دولية وإقليمية ، بعد الهزائم التي مني بها المشروع الاستعماري الأميركي الذي بلغ ذروة اندفاعه في غزو العراق وأفغانستان وحربي لبنان وغزة ، وهي الحروب الأربعة الكبرى التي قادتها الولايات المتحدة بالشراكة مع الناتو وإسرائيل وحكومات الخليج التابعة .
المسار الذي اتخذته الحرب العالمية على سورية شكل الحدث العالمي ، و محور الاستقطاب الاستراتيجي الذي تبلورت في سياقه معالم الوضع الجديد في العالم والمنطقة ، وبعد سنة ونيف يمكن لنا رصد المؤشرات الرئيسية التالية :
أولا: انقلاب الصورة في مجلس الأمن الدولي من البوابة السورية :
للمرة الأولى منذ حضور جزمة خروتشوف على منبر الأمم المتحدة التي تحولت إلى مستعمرة أميركية في زمن الهيمنة الأحادية ، برزت روسيا كقوة مبادرة هجوميا تتحكم بصياغة قرارات دولية و برسم آليات تنفيذها ومتابعتها ميدانيا، من خلال البيان الرئاسي لمجلس الأمن و القرارات اللاحقة حول خطة أنان، التي أخضعت كليا لشروط السيادة الوطنية السورية ، و منع الأميركي البشع من التسلل إليها، و هو ما شكل استكمالا لتوازن الردع الذي أقامه الفيتو الروسي الصيني المزدوج الذي منع استصدار قرار لتغطية الحرب على سورية.
استندت الدينامية الروسية إلى صمود سورية بشعبها وجيشها ودولتها وقائدها، وبفضل استعصائها على أي عدوان اجنبي بإقرار واعتراف القادة العسكريين والمسؤولين الأميركيين والغربيين الذين يشهدون بصورة متزايد على تماسك الدولة السورية والجيش السوري ويقرون بارتفاع شعبية الرئيس بشار الأسد وبالمزيد من تفكك وتناحر المعارضات السورية وعصاباتها المسلحة التكفيرية و الإرهابية ، التي يحتضنها التحالف العالمي الإقليمي المتورط في الحرب على سورية، ويشدد قادة الغرب على الخشية من حرب كبرى قد تهدد وجود إسرائيل نتيجة لأي عدوان على سورية، بينما يتقدم الدور الروسي في رعاية الحركة الأممية في سورية مع المزيد من اعترافات المسؤولين الغربيين بالفشل رغم سنة كاملة من التدخل و العدوان وظفت فيها جميع القدرات والإمكانات ، و شتى أدوات الإرهاب عبر التدخلات العسكرية والأمنية ومن خلال الحملات الإعلامية وسائر أدوات إستراتيجية الحرب غير المباشرة بفعل العجز الشامل عن شن حرب مباشرة توازي حربا عالمية على حد تعبير مسؤول فرنسي كبير.
ثانيا: تقدم مجموعة البريكس الدولية في المشهد العالمي :
فقد انتقلت هذه الكتلة بقوة إلى خريطة التوازنات السياسية الدولية من البوابة السورية بدلا من حصر نشاطها خلال السنوات الماضية بالتحرك و التصرف كتكل اقتصادي يفاوض في قضايا الطاقة واتفاقيات التجارة الدولية وغيرها من الشؤون المالية والاقتصادية المتشابكة عبر العالم وحيث فرضت الإمبراطورية الأميركية على العالم قواعد عملها وحركتها ومضمون علاقاتها منذ عقود بوصفها القوة المهيمنة و المقررة .
مجموعة البريكس تقدمت نحو بلورة تصورها حول مستقبل العلاقات الدولية عبر المطالبة بمقاعد دائمة في مجلس الأمن لكل من الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا إلى جانب روسيا والصين وهذا ما يعني إحداث تحول نوعي في توازنات الأمم المتحدة إلى جانب مطالبة البريكس بتعديل هيكليات و وظائف كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحل منظمة التجارة العالمية التي صاغتها الهيمنة الأميركية تحت ثوب العولمة، واللافت أن هذه المطالب وردت في بيان للفاتيكان الذي مثل الحدث السوري محفزا لتحول كبير في نظرته للواقع الدولي .
ثالثا: تناغم الكنائس الشرقية و الغربية في مقاومة التبني الأميركي و الغربي للتكفير و التطرف :
حققت دينامية الصمود السوري إنجازا كبيرا و استراتيجيا عالميا من خلال إبراز المخاطر الناتجة عن تبني الولايات المتحدة والدول الغربية لحركات سياسية متطرفة واستعمالها لفصائل التكفير في العدوان على سورية، تحت يافطة ما سمي بالربيع العربي الذي توسلت عبره الإدارة الأميركية إعادة تكوين انظمة عميلة رفضتها الشعوب، وتحول النظرة العالمية إلى السياسة الأميركية والغربية ونفاقها الفاضح ومضمونها الإجرامي بإعادة تدوير التكفير والإرهاب بالشراكة مع المملكة السعودية وكل من تركيا وقطر لتمزيق المنطقة، هو تطور ساهمت في صياغته حقيقة الوحدة الوطنية للشعب السوري في مجابهة الحرب العالمية وحيث عبر السوريون عن تمسكهم بهويتهم وبخيار المقاومة والاستقلال وخرجت القيادات الدينية المسيحية و المسلمة تجاري المناخ الشعبي بصلابة وقوة بينما العصابات المسلحة والواجهات الرثة التي دعمها الغرب كانت المسؤولة عن تنظيم مجازر ضد المواطنين المسيحيين والمسلمين وعملت على تسعير عنف طائفي و ديني، وهذا ما طرح قضية الوجود المسيحي المشرقي والخطر الكبير على وحدة النسيج المجتمعي، وقد تجاوب الفاتيكان مع المواقف المسيحية المشرقية ونشأت صلة تواصل و تناغم متقدمة بين كراسي انطاكية المسيحية المشرقية و بابوية موسكو الأرثوذكسية وكرسي روما المسكوني الكاثوليكي، انطلقت من اعتبار الدولة الوطنية السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد نموذجا مشرقيا مهما سبق أن شهد له العالم باحتضان أبناء العراق الذي هجرهم التكفير والتطرف الذين أطلقا تحت الاحتلال الميركي و برعايته و هو قدم تجربة سابقة في حماية مسيحيي لبنان من مشروع اضطهاد و تهجير طائفي قبل أكثر من ثلاين عاما و هكذا فقد حررت حقائق سورية قوة عالمية مهمة هي الفاتيكان من عصر الهيمنة الأحادية الأميركية و اتاحت للكنيسة العالمية نظرة اكثر توازنا للواقع الدولي .
رابعا: انتزاع الاعتراف بالقوة الإيرانية العظمى :
بعد ثلاثة و ثلاثين عاما من الحصار و العقوبات و الحروب الاستخباراتية المستمرة تضطر الولايات المتحدة بعد انهزامها امام صمود سورية للاعتراف بالقوة الإيرانية الصاعدة وهي تسولت فرص التفاوض مع إيران في السنوات الأخيرة لكنها كانت تراهن على نقل هجومها نحوها في حال تمكنت من كسب الحرب على سورية .
الاعتراف بالقوة الإيرانية والسعي لترسيم خرائط النفوذ والمصالح هو مضمون جولة المفاوضات القادمة في بغداد و القوة الإيرانية المتشابكة مع شركائها في المنطقة ضمن منظومة المقاومة، و بالذات مع سورية حليفها الاستراتيجي، ومع كل من روسيا والصين ودول البريكس الأخرى تربح جولة مهمة من الكفاح الطويل بفضل صمود سورية و ثباتها و بفعل فشل الحرب العالمية عليها .
العالم الجديد يولد من دمشق ومعه تولد معادلات جديدة وما تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب والحكومات التابعة لها في الخليج و تركيا ليس سوى عرقلة الولادة وتأخير الاعتراف ومحاولة الحد من الكلفة الخطيرة التي ترتبها التحولات على المصالح الاستعمارية وعلى وجود إسرائيل مع نجاح مناهضي الهيمنة الاستعمارية في التأسيس لسوابق جديدة في العلاقات الدولية .
بعد انتصار سورية الناجز ستكون المبادرة لقوى التحرر والاستقلال في المنطقة و العالم، و سيسجل التاريخ أن سورية التي وقف زعيمها و تحدى الغطرسة الأميركية غداة احتلال بغداد، ورغم وجود نصف مليون جندي أميركي على حدود سورية الشرقية وعندما كانت الدول العظمى الحليفة كروسيا والصين والهند تتحاشى التصادم مع الثور الأميركي الهائج، هذه السورية هي التي تكفلت بصمودها و بمقاومتها للحرب العالمية بإطلاق معادلات العالم الجديد