تحوّلت مدينة بني خيار من ولاية (محافظة) نابل التونسية، أخيرا، إلى ما يشبه خلية النحل. وعرضت من خلال الدورة الأولى لـ«مهرجان الزهر» (زهر الأرنج / النارنج) تقاليد وعادات المنطقة والمناطق المجاورة في الاحتفال بهذه الزهرة الملهمة للسكان والزائرين على حد السواء.
الدورة الأولى من هذا المهرجان حملت شعار «ريحة البلاد» في دلالة رمزية على ما تجود به هذه النبتة سنويا من روائح زكية قد لا تجدها إلا في زهرة الأرنج. ومن خلالها عرضت مدينة بني خيار على امتداد يومين من أيام الدورة الأولى للمهرجان مشاتل نبتة الزهر في محاولة للتشجيع على زيادة غرسها في المنطقة وتعويض ما شاخ منها إبان العقود الماضية. واعتني بمجسم كبير لـ«الفاشكة»، التي هي الحاوية البلورية التي يعرض من خلالها ماء الزهر لعموم المستهلكين.
في الواقع، كانت «خرجة» جني الزهر مميزة هذا العام، إذ تجمع سكان بني خيار وزائروها في وسط المدينة على مستوى مجسم «الفاشكة» وتوجهوا إلى تعاضدية النسيج بضواحي المدينة. وهناك جرت برمجة ورشة حيّة لعملية تقطير الزهر، في حين عمد بعض المشاركين في المهرجان إلى جمع تويجات الزهر في المكان نفسه من أعالي أشجار الأرنج وقدموها لبعض النساء العارفات بخفايا تقطير الزهر على الطريقة التقليدية. وبالتالي، أمكن الحصول على ماء الزهر مباشرة من الأيادي المنتجة إلى الأيادي المستهلكة.
ما يذكر أن تقطير زهر الأرنج يشكّل موعدا موسميا لتلاقي الجيران في هذا الجزء من تونس، إذ تجتمع النسوة حول «القطّار العربي» الذي يصنع من النحاس أو الفخار، يساعد بعضهن البعض لإعداد العَولة (المونة) وتجميع ماء الزهر في قوارير بلورية خاصة تعرف كما سبقت الإشارة بـ«الفاشكة».
وراهنا، تمثل مساحات زهر الأرنج بولاية نابل، جنوب شرقي العاصمة تونس نحو 350 هكتارا تحتوي ما يقرب من 120 ألف شجرة أرنج، يبلغ إنتاجها السنوي ما بين 1000 و1200 طن من الزهر، وتستحوذ المنطقة على نسبة 65 في المائة من مجموع غراسات الأرنج في البلاد. هذا، ويتم تقطير 60 في المائة من الكميات المنتجة بالطريقة العصرية مقابل قرابة 40 في المائة من الإنتاج بالطرق التقليدية. ويعد موسم جني الزهر وتقطيره اليوم مصدر دخل لقرابة ثلاثة آلاف عائلة من عائلات نابل.
خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قال نبيل المرزوقي، وهو من أبناء الولاية، إن كل عائلة من العائلات النابلية تحتاج إلى ما يتراوح بين 3 وزنات إلى 4 وزنات من الزهر، أي ما يقارب 12 إلى 16 كلغ، بغية الاحتفاظ بها ضمن مواد «العولة» التقليدية. وتابع المرزوقي، موضحا، أن «مدن ولاية نابل تخصّصت في استعمالات عديدة للزهر، من بينها صناعة معجون الزهر، وذلك بخلط مكوّنات الزهر المرحي والعسل ويجري تناول هذا الخليط العجيب مع فطور الصباح».
وفي تونس يوظف ماء الزهر في مجالات عديدة من بينها الصيدلة وإعداد الأكلات والحلويات. كما أن بعض العائلات تلجأ إليه لعلاج البشرة والمساعدة على النوم الهادئ وخفض حرارة الجسم والتوقّي من ضربة الشمس. بحلول الأيام الأولى لفصل الربيع تزدان أشجار النارنج في نابل وما حولها بأزهار النبتة البيضاء اللون التي تعبق رائحتها فوّاحة لتعلن عن انطلاق موسم تقطير الزهر.
من ناحية ثانية، توجد في منطقة نابل ست وحدات تحويلية وتبرز كقطب هام لإنتاج وتصدير زيت «النيرولي» المستخدم في صناعة العطور الفاخرة ومواد التجميل. ويُستخرج من الطن الواحد بالطريقة الصناعية كيلوغرام واحد من «النيرولي» و600 ليتر من ماء الزهر. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نابل تصدِّر سنويا إلى غراس، عاصمة صناعة العطور في فرنسا، ما بين 500 و700 كلغ من زيوت «النيرولي» ويوفّر القطاع سنويا للبلاد بين 3 و4 ملايين دينار تونسي (ما بين 2 و3 ملايين دولار أميركي) من العملة الصعبة.
شمسية ميلاد، من جهتها شرحت لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معها أن «تقطير الزهر تقليد سنوي تتعطش له العائلات في مختلف مناطق نابل. وأنا شخصيا أفضل عملية التقطير التقليدي وأرى فيها فوائد عديدة من بينها المحافظة على بعض التقاليد العائلية الاحتفالية والحصول على ماء زهر أفضل بكثير من حيث الجودة».