خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة
لفضيلة الشيخ: أسامه عبد الله خياط
والتي تحدث فيها فضيلته عن: الإفلاس الحقيقي
الحمد لله الذى أنار بصائر أولي النهى بهدي كتابه المبين وأضاء جنبات نفوسهم بسنة خاتم النبيين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حذّر أولي الألباب من التردي في وهدة ظلم النفس، أو ظلم أحد من الخلائق أجمعين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله أوضح معالم الطريق للسالكين، ونصح الأمة مشفقًا حريصًا رؤوفًا رحيمًا بالمؤمنين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله فإن المرء لا يزال بخير ما اتقى الله وأقبل على مولاه وخالف نفسه وهواه وأخذ من دنياه لأخراه، أيها المسلمون إن النظر الثاقب والفكر الراشد والبصيرة الواعية واليقظة الحية كل أولئك مما يبتغي أولو الألباب به الوسيلة إلى نيل المنى وبلوغ الآمال والظفر بالمقاصد والحظوة بالسعادة في العاجلة والعقبى، فتراهم من أجل ذلك ساعين بكل سبيل متوسلين بكل وسيلة للتمييز بين الخبيث والطيب، والفصل بين الزبد الذي يذهب جفاء وبين ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وتجدهم مع قوة الباعث وشدة الرغب وكمال الطلب قد أوتوا حظًا من هذا الحس المرهف والتحرج الطهور والإشفاق الوجل أن يُلفوا في بنيانهم الراسخ الذي شادوه شيئا من الفتوق أو بعضًا من الشقوق التي تفضي إلى تسرب شئ قليل مما اُدخر فيه من كنوز الأعمال وذخائر الباقيات الصالحات التي صُرفت في جمعها نفائس الأيام وغرر الليالي وأشرف الأزمان؛ لأنهم يستيقنون أن ذهاب الأقل مؤذنٌ بذهاب الأكثر، والتفريط في اليسير باعث إلى التفريط في الخطير، والاستهانة بالصغائر مدرجة إلى الوقوع في الكبائر، خاصة إذا اجتمع إلى ذلك استخفاف بالأمور واستدامة لأسبابها واستبقاء لأصولها وتقاعس عن تدارك الفارق وجبر الكسر وإقامة المعوج، ومثل أولى الألباب في نهجهم المضيء هذا مثل صاحب الأرصدة المدخرة من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، تلك الأرصدة المالية المادية التي أجهد في جمعها نفسه وأضنى فؤاده لتكون له منها العدة وقت الشدة والوقاية التي تقيه صروف الليالي ونوائب الأيام، فهو لذلك مجتهد في حفظها كلفٌ بتنميتها وتثميرها، حذر من تبديدها وإضاعتها، وإن هذا الفريق اليقظ من عباد الله لينهج هذا النهج الراشد ويمضى على هذا الطريق المستقيم مقتفيًا أثر هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه مترسمًا خطاه مستمسكًا بهديه المبثوث في الصحيح من سنته والثابت من حديثه وسيرته، فمما صح وثبت عنه r هذا الحديث العظيم يُحدِّثُ به عليه الصلاة والسلام صحابته الكرام مُورِِدًا إياه في صورة استفهامية متفردة، حفل بها الخطاب النبوي الكريم في حشدٍ وافرٍ من نصوصه الصحيحة الثابتة لأن فيها تنبيهًا للعقول وشحذًا للأذهان وتفريغًا للقلوب وتمكينًا للفهم وباعثًا على كمال الحفظ وتمام الضبط.
فقد أخرج مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال:" أتدرون من المفلس؟"، وفي رواية " أتدرون ما المفلس ؟"، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله r : "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
وإنه لتصوير بديع وبيان رفيع ومعالجة دقيقة بارعة، جُمعت فرائدها في خطاب جامع، قل عدد حروفه وألفاظه وكثرت معاينه ومراميه والمراد به كما قال أهل العلم: " أن هذه هي حقيقة المفلس وأما من ليس له مال ومن قل ماله فالناس يسمونه مفلسًا وليس هو حقيقة المفلس لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربما ينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته، وإنما حقيقة المفلس هذه المذكورة في الحديث، فهو الهالك الهلاك التام والمعدوم الاعدام المفظع، فتؤخذ حسناته لغرمائه فإذا فرغت حسناته أُخذ من سيئاتهم فوضعت عليه ثم أُلقي في النار، فتمت خسارته وهلاكه وإفلاسه. فليس عجبًا إذن أن يعي أولوا الألباب من هذا البيان النبوي الكريم أن ما يرصده المرء من أعماله في دنياه وما يدخره منها لأخراه، موقوف على شفا خطر داهم وهو الانتقاص منه شيئًا بعد شيء حتى تذوى زهرته وينضب معينه وييبس أخضره ويتلاشى مخزونه في ركام مجموع وتحت أحمال ثقال من حقوق العباد الذين بغى عليهم في الحياة الدنيا بغير حق واستطال عليهم بغير القسط فقامت عنده للظلم سوق رائجة وارتفعت بساحته للبغي رايات منصوبة وأثمرت للجور في أرضه شجرات خبيثة وثمرات مرة مكروهة فكانت العاقبة عند ذاك إفلاسًا هو الإفلاس حقًا لأنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا بالإنفاق من العملة التي بدد والرصيد الذي بعثر وسحب والحساب الجاري الذي أغلق وأبطل وأني لمثل هذا المفلس أن يستعيد شيئًا مما فقد وقد نفذت عملة الحسنات، وفني رصيد الأعمال ونضب معين الحساب الجاري من ذخائر الباقيات الصالحات، ألا وقد ظن فريق من الناس أن هذا الحديث الصحيح الثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه المبيّن لحقيقة المفلس ظن أنه معارض لقول الله تعالى
ولا تزر وازرة وزر أخرى (، وابتنى على هذا الظن رد الحديث وإبطاله والقدح فيه ولا ريب أن هذا الفريق إنما أُوتي من سوء الفهم للآية والحديث معًا والحق أنه لا تعارض بينها،
فإن هذا المفلس كما قال أهل السنة والجماعة: إنما عوقب بفعله ووزره وظلمه فتوجهت عليه حقوق لغرمائه فدُفعت إليهم من حسناته فلما فرغت وبقيت بقية قوبلت على حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى في خلقه وعدله في عباده فأُخذ قدرها من سيئات خصومه فوُضع عليه فعوقب به في النار فحقيقة العقوبة إنما هي إذًا بسبب ظلمه، ولم يعاقب بغير جناية وظلم منه. وبهذا تجتمع الآية والحديث ولا يتعارضان عند أهل السنة والجماعة سلف هذه
الأمة وخيارها الذين لا يضربون كتاب الله تعالى بسنة نبيه r بل يؤمنون بهما معا لأنهما حق من عند الله الواحد الأحد الفرد الصمد تقدست ذاته وأسماءه وصفاته وجل سبحانه وتنزه عن الأنداد والأمثال: )ليس كمثله شئ وهو السميع البصير(.
ألا فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على الحفاظ على أرصدتكم من الباقيات الصالحات، وحذار من البغي في الأرض بغير الحق والاستطالة على الخلق، تكونوا من المفلحين، وتحظوا برضى الإله الخالق رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون(. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيا عباد الله، إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، فاستمسكوا أيها المسلمون بهدي الوحيين واعملوا بهذين النورين تكن لكم العقبى فى العاجلة والأخرى.
وألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه )إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً(.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد r وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المجاهدين لنصر دينك وإعلاء كلمتك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، اللهم عليك باليهود الطاغين، اللهم اشدد وطأتك على اليهود، اللهم اشدد وطأتك على اليهود، اللهم اشدد وطأتك على اليهود، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزم هؤلاء اليهود الطاغين المجرمين القتلة السفاكين، اللهم عليك بهم، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم عليك بهم، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ووفق أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا وهيئ له البطانة الصالحة وأعز به دينك وأعل به كلمتك ووفقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم احفظ هذه البلاد عزيزة بعز الإسلام محفوظة بحفظه حائزة على كل خير سالمة من كل شر، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك r، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، وأجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون % وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون(.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.