بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لسؤال:
أبلغ من العمر 19 عاما ، وأنا ضحية لقلق وضيق شديدين بسبب شكوكي المعلقة بالشرك ، أحاول جاهدا أن أجد الشعور بالإيمان ، لكني لا أزال غير قادر على إقناع نفسي أني على طريق التوحيد ، سؤالي طويل ، ولا يمكنني طرحه بصيغة مختصرة ، لذلك فأنا أرجو منك أن تصبر على طرحي لهذا السؤال ، فجوابك هام جدا على حياتي كمؤمن . أولا : ما هو معنى "نداء (أو ربما دعاء) غير الله" ؟ لقد سمعت كثيرين يخاطبون كائنات حية وأخرى غير حية . العديد منا عندما يجدون صعوبة في فتح شيء ما ، كباب مثلا ، أو غطاء لقنينة ، فإنهم يقولون "افتح" وهم في حالة من الغضب لإخفاقهم في فتحه ، مع أننا لا نعني أن نقول ذلك حقا . وقد سمعت شخصا كان أقاربه في مدينة أخرى ، وكان يفتقدهم ، فقال : "أنا أفتقدكم كثيراً ، أخبروني ، ماذا أفعل ؟" . كما أن هناك الكثير من الأشعار الخاصة بالصغار والتي تصور وكأن الواحد يستطيع التحدث إلى الطيور والحيوانات ، مثل : "تعال يا عصفور ، اشرب ماءك ، ثم طر عاليا في الهواء" ، أو "اذهب أيها الطائر ، وانقل هذه الرسالة إلى والديّ" . وفي بعض الأحيان فإن الناس يصورون الجمادات وكأنها بشر ليسهل عليهم التعبير عما يريدون إيصاله ، فعندما يكون هناك طقس جميل ، فإنهم يقولون : "حتى السحب تخبرنا أن نخرج ونتناول طعامنا خارج المنزل" أو "نَفَسك كان كريها لدرجة أن الميكروفون شعر بالإنهاك وطلب المساعدة" وأيضا ، "حتى الرياح خافت منك ، وبدأت تنفخ من الشرق في اتجاه الغرب" . هل كل ما ورد هو من نداء غير الله ؟ وما هو المقصود بنداء غير الله ؟ ومتي يكون في نداء غير الله شركا ؟ أرجو أن تحل (تعلق على) الأمثلة التي أوردتها أعلاه وأنت تجيب على السؤال .
الجواب
الحمد لله
أولاً :
لا ينبغي للمسلم أن يستسلم للشكوك ولا أن يسترسل معها ، فإن هذا هو السبب في قلقه واضطرابه ، وعليه أن يقوي إيمانه ويحسن توكله على ربه تعالى حتى يزول ما عنده من شكوك .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي :
"ومتى اعتمد القلب على الله ، وتوكل عليه ، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة ، ووثق بالله وطمع في فضله ، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم ، وزالت عنه كثير من الأسقام القلبية والبدنية ، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ، والمعافى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب ، الدافعة لقلقه ، قال تعالى { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي : كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه .
فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام ، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له ، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة ، فيثق بالله ويطمئن لوعده ، فيزول همه وقلقه ، ويتبدل عسره يسراً ، وترحه فرحاً ، وخوفه أمناً ، فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير" انتهى من " الوسائل المفيدة للحياة السعيدة " ( ص 12 ، 13 ) .
ثانياً :
من الشكوك التي يعانيها الأخ السائل ظنه أن الخطاب غير المقصود في ألفاظ الناس هي نفسها التي توقع صاحبها في الشرك وهذا الثاني هو ما يفعله المشركون في دعائهم وندائهم للأموات أو الجمادات يطلبون منهم كشف الضر وجلب النفع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
"وهذا ونحوه مما يبين أنَّ الذين يدعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وغير قبورهم هم من المشركين الذين يدعون غير الله ، كالذين يدعون الكواكب والذين اتخذوا الملائكة والنَّبيّين أرباباً ، قال الله تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ.وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران / 79 – 80 ] .
وقال تعالى : { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء / 56 – 57 ] .....
ومثل هذا كثيرٌ في القرآن ، ينهى أنْ يُدعى غيرُ الله لا مِن الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم ، فإنَّ هذا شركٌ أو ذريعةٌ إلى الشرك ، بخلاف ما يُطلب مِن أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة ، فإنَّه لا يفضي إلى ذلك ، فإنَّ أحـداً من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته بحضرته ، فإنَّه ينهى من يفعل ذلك بخلاف دعائهم بعد موتهم، فإنَّ ذلك ذريعة إلى الشرك بهم ، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعةٌ إلى الشرك...
فإنَّ الغائبَ والميتَ لا يَنهى مَن يشرك ، بل إذا تعلقت القلوبُ بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك به فدعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين... " انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 1 / 178-179 ) ، وانظر ( 1 / 312 و 1 / 69 - 70 و 1 / 294 ) .
وأما نقله الأخ السائل من عبارات : فإنها كلها لا تدل على المحذور الذي نذكره هنا ؛ وذلك أن أصحابها لم يقصدوا النداء ولا المخاطبة ، وإنما هو أسلوب من أساليب الجارية في اللغة العربية وغيرها من اللغات ، والمقصود منها يعلمه السامع ويعلمه المتكلم قبله ، ولها مقاصد بلاغية ، بحسب السياق الواردة فيه .
وقد تكلم بشيء من هذه العبارات السلف من الصحابة وغيرهم :
1. عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله فقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنِّي رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقبُّلك ما قبلتك .
رواه البخاري ( 1520 ) ومسلم ( 1270 ) .
2. ما يروى عن هارون الرشيد أنه كان يستلقي على قفاه وينظر الى السحابة الحاملة للمطر ويقول " اذهبي إلى حيث شئتِ يأتيني خراجك " .
والحاصل أن الشرك في دعاء الأموات والأحجار والأشجار ونحوها ، إنما هو في دعائها وطلب الحاجة منها ، وغير ذلك مما لا يجوز إلا لله تعالى وحده ، فلا يعطي ولا يمنع ، ولا يضر ولا ينفع ، ولا يدعى ولا يعبد : إلا الله سبحانه .
وأما مجرد خطاب الحيوان والجماد ، فليس فيه شيء من ذلك ، لأن مخاطبه لا يتعلق قلبه به ، ولا يرجو منه ضرا ولا نفعا ، كما قال عمر ، وليس له عنده شيء من التقديس ؛ بل يعلم مع ذلك كله أنه جماد محض .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب