أيدالله رسوله محمد بالمعجزة الخالدة القرآن الكريم، وتحدى بها بلغاء العرب وفصحائهم،وأوجه الإعجاز في القرآن كثيرة، منها الإعجاز اللغوي والبياني، والمتمثل في نظمهالعجيب، الذي يختلف عن النثر والشعر، ولإعجاز النظم فيالقرآن الكريم عدة مظاهر تتجلى فيما يتعلق بالأسلوب أو الكلمة المفردةالإعجاز في نظم القرآن الكريم
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
يختلف القرآن الكريم في نَظْمِه
عن النثر والشعر، ولكنه في ذات الوقت يجمع من خصائصهماما يُحَيِّر السامع له، ولإعجاز النَّظْم في القرآن الكريم عدَّة مظاهرتتجلَّى فيها[1].
أولًا: الخصائص المتعلِّقة بالأسلوب
أ- أن الأسلوب القرآنييَجْرِي على نسق بديع خارجٍ عن المعروف من نظام جميع كلام العرب، فالفنونالتعبيريَّة عندهم لا تَعْدُو أن تكون شعرًا أو نثرًا، ولكن القرآن شيء آخر؛فلننظر إلى قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌمِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (4)وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَاوَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 1-5].
فهذه الآيات القرآنيةبتأليفها العجيب، ونظمها البديع حينما سمعها عتبة بنربيعة -وكان منأساطين البيان- استولت على أحاسيسه ومشاعره، وطارت بلُبِّه، ووقف في ذهول وحَيْرة،ثم عبَّر عن حَيْرته وذهوله بقوله: "والله لقد سمعتُ من محمد قولاً ما سمعتُمثله قطُّ، والله! ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة... والله ليكوننَّ لقولهالذي سمعتُهُ نبأ عظيم"[2].
ب- كما أن الأسلوب القرآنييظلُّ جاريًا على نسق واحد من السموِّ في جمال اللفظ، وعمق المعنى ودقَّة الصياغةوروعة التعبير، رغم تنقُّله بين موضوعات مختلفة من التشريع والقصص والمواعظ والحِججوالوعد والوعيد، وتلك حقيقة شاقَّة، بل لقد ظلَّت مستحيلة على الزمن لدى فحولعلماء العربيَّة والبيان.
ج- ومن خصائص الأسلوبالقرآني كذلك أن معانيه مصاغة بحيث يصلح أن يخاطَب بها الناس كلهم على اختلافمداركهم وثقافتهم، وعلى تباعد أزمنتهم وبلدانهم، ومع تطوُّر علومهم واكتشافاتهم.
خُذْ آية من كتاب اللهممَّا يتعلَّق بمعنًى تتفاوت في مدى فهمه العقول، ثم اقرأها على مسامع خليط منالناس يتفاوتون في المدارك والثقافة، فستجد أن الآية تعطي كلاًّ منهم معناها بقدرما يفهم، وأنَّ كلاًّ منهم يستفيد منها معنًى وراء الذي انتهى عنده علمه، مثل قولهتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِبُرُوجًا وَجَعَلَفِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61]، فهذهالآية تصف كلاًّ من الشمس والقمر فالعامِّي من العرب يفهم منها أن كلاًّ من الشمسوالقمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، والمتأمِّل من علماء العربيَّة يُدْرِك من وراءذلك أن الآية تدلُّ على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة؛ فلذلك سمَّاها سراجًا،والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه لذلك سمِّيَ منيرًا، أمَّا العالِمُ الفلكي الحديثفقد يفهم منها أن إضاءة الشمس ذاتية كالسراج، بينما نور القمر مجرَّد انعكاس.. وكلهذه المعاني صحيحة[3].
د- ومن خصائص الأسلوبالقرآني تميّزه بظاهرة التكرار الذي ينطوي على معانٍ بلاغية كالتهويل، والإنذار، والتجسيموالتصوير، ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ*مَا الْحَاقَّةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1-3]، وقولهتعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر: 26، 27].
وهناك تَكْرَار من نوعآخر وهو تكرار بعض القصص القرآني؛ ولكنه تكرار يُؤَدِّي معاني خاصة، حيث تبدأالقصص المكرَّرة بإشارة مقتضبة، ثم تطول هذه الإشارات شيئًا فشيئًا، ثم تعرض فيحلقات كبيرة تكون في مجموعها جسم القصة، وخير شاهد على ذلك قصة موسى uالتي وَرَدَتْ في حَوَالَيْ ثلاثين موضعًا في القرآن، ولكنها في كل موضع تُخْرَجُ إِخْرَاجًاجديدًا يناسب السياق الذي وَرَدَتْ فيه، وتهدف إلى هدف خاصٍّ لم يُذْكَرْ في مكانآخر؛ حتى لكأننا أمام قصَّة جديدة لم نسمع بها من قبلُ؛ ففي سورة الأعلى -السورةالثامنة في النزول- وردت إشارة قصيرة عن موسى u،فقال I: {إِنَّ هَذَا لَفِيالصُّحُفِ الأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19]، ثم تُعرضالقصة في سور مختلفة وبطرق مختلفة في سورة الأعراف والشعراء والنمل، ثم تأتي سورةالقصص حيث تبدأ القصة من أول حلقة فيها من مولد موسى فيإبان اضطهاد فرعون لقومه،ووضعه في التابوت، وإلقائه في البحر، والتقاط آل فرعون له، ثم تنتهي عند حلقةفرعون بعد خروج موسى، وهكذا في باقي المواضع الثلاثين؛ ممَّا يؤكِّد أن التكرار فيالقرآن ليس تكرارًا مطلقًا، بل لمقصد وغاية تربوية وعقائدية[4].
ثانيًا الخصائص المتعلِّقة بجمال المفرَدَةالقرآنيَّة
والتي من أهمِّمزاياها وخصائصها جمال وقعها في السمع، واتِّساقها الكامل مع المعنى، واتِّساعدلالتها لما لا تتَّسع له عادةً دلالات الكلمات الأخرى من المعاني والمدلولات.
وقد نجد في تعابير بعضالأدباء والبلغاء كلمات تتَّصف ببعض هذه المزايا والخصائص، أمَّا أن تجتمع كلهامعًا وبصورة مطَّرِدَة لا تتخلَّف أو تشذُّ فذلك ممَّا لم يتوافر إلاَّ في القرآنالكريم، وإليك هذا المثال القرآني الذي يوضح هذه الظاهرة ويجليها:
يقول تعالى في وصف كلٍّمن الليل والصبح: {وَاللَّيْلِ إِذَاعَسْعَسَ *وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17، 18]، ففي هاتينالكلمتين: "عَسْعَسَ"، و"تَنَفَّسَ"تشعر أنهما تبعثان في خيالك صورة المعنى محسوسًا مجسَّمًا دون حاجة للرجوع إلىقواميس اللغة؟! وهل في مقدورك أنْ تُصَوِّر إقبال الليل وتمدُّده في الآفاقالمترامية بكلمة أدقَّ وأدلَّ من "عَسْعَسَ"؟! وهلتستطيع أن تُصَوِّر انفلات الضحى من مخبأ الليل وسجنه بكلمة أروع من "تَنَفَّسَ"[5]؟!
ثالثًا:الخصائص المتعلِّقة بالجملة القرآنيَّةوصياغتها
ونجد ذلك واضحًا فيالتلاؤم والاتِّساق الكاملين بين كلماتها، وبين حركاتها وسكناتها؛ فالجملة فيالقرآن تجدها دائمًا مؤلَّفة من كلمات وحروف وأصوات يستريح لتألُّفها السمع والصوتوالمنطق، ويتكوَّن من تضامِّها نسق جميل ينطوي على إيقاع رائع، ما كان لِيَتِمَّلو نقصت من الجملة كلمةٌ أو حرف، أو اختلف ترتيب ما بينها بشكل من الأشكال، فاقرأقوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِبِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ *وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11، 12]، وتأمَّلتناسق الكلمات في كل جملة، بل وتناسق الحروف قبل الكلمات، وعن هذا التناسق البديعبين الجمل والكلمات يقول الباقلاني:"تلك الألفاظالبديعة، وموافقة بعضها بعضًا في اللطف والبراعة، ممَّا يتعذَّر على البشر ويمتنع"[6]!
كما نجد الجملةالقرآنيَّة تدلُّ بأقصر عبارة على أوسع معنى تامٍّ متكامل، لا يكاد الإنسان يستطيعالتعبير عنه إلاَّ بأسطر وجمل كثيرة، دون أن تجد فيه اختصارًا مُخِلاًّ، أو ضعفًافي الأدلَّة[7]، اقرأقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، فلا يمكنالتعبير الدقيق عن أثر قيمة القصاص في حياة المجتمع إلاَّ بكلمة حياة؛ فالحياةالتي في القصاص تنبثق من كفِّ الجناةِ عن الاعتداء ساعة الابتداء، فالذي يوقن أنهيدفع حياته ثمنًا لحياة مَن يقتل جدير به أن يتروَّى ويفكِّر ويتردَّد، كما تنبثقمن شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل، وفي القصاص حياة على معناهاالأشمل الأعم؛ فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كلإنسان حي، يشترك مع القتيل في سمة الحياة، فإذا كَفَّ القصاصُ الجاني عن إزهاقحياة واحدة؛ فقد كَفَّه عن الاعتداء على الحياة كلها[8].
وكذلك إخراج الجملةالقرآنية للمعنى المجرَّد في صورة حسية ملموسة، ببثِّ الرُّوح والحركة فيها، فيقولI: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِالَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّاأَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍلاَ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]، إنه يُصَوِّر لك هذاالمعنى في مظهر من الحركة المحسوسة الدائرة بين عينيك؛ حيث شبَّه حال المنافقالمضطرب بين الحقِّ والباطل بالأعمى الذي لا يبصر[9].
هذه بعض مظاهر الإعجازاللغوي والبياني في القرآن، وقد اعترف نصارى العصر الحديث بعظمة القرآن، وسجَّلوافي ذلك شهاداتهم التي تنطق بالحقِّ؛ فها هو ذا الدكتور ماردروس[10] المستشرقالفرنسي بعد أن كلَّفَتْهُ وزارتا الخارجيَّة والمعارف الفرنسيَّة بترجمة اثنينوستِّين سورة من القرآن يعترف بعظمة القرآن الكريم، وقال في مقدِّمة ترجمتهالصادرة سنة (1926م): "أمَّا أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جلَّ وعلا؛ فإنالأسلوب الذي ينطوي على كُنْهِ الخالق الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلاَّإلهًا، والحقُّ الواقع أن أكثر الكُتَّاب شكًّا وارتيابًا قد خضعوا لسلطان تأثيره"[11].
د. راغب السرجاني
[1] في مظاهر إعجاز النظم في القرآن الكريم انظرمحمد السيد شيخون: الإعجاز في نظم القرآن الكريم، والمحمدي عبد العزيز الحناوي: دراساتحول الإعجاز البياني في القرآن، وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ): إعجاز القرآنالبياني.
[2] البيهقي: دلائل النبوة (509) 2/79، وابن هشام:السيرة النبوية 1/294، والسهيلي: الروض الأنف 2/46، وابن كثير: السيرة النبوية1/504، 505
[3] انظر: محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص 147،148.
[4] انظر: سيد قطب: التصوير الفني في القرآنص156-162.
[5] وللوقوف على الخصائص المتعلِّقة بالمفردةالقرآنية انظر: تمام حسان: البيان في روائع القرآن من ص289-328.
[6] الباقلاني: إعجاز القرآن ص42.
[7] محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص 153،وانظر: تمام حسان: البيان في روائع القرآن ص395-421.
[8] سيد قطب: في ظلال القرآن 1/137.
[9] محمد أبو زهرة: المعجزة الكبرى القرآن ص272.
[10]جوزيفشارل مارْدْرُوس Joseph Charles Mardrus (1868-1949م): طبيب ومستشرق فرنسي، ولد بالقاهرة, ورحل إلى باريسفدرس فيها الطب، وترجم معاني (القرآن الكريم) إلى الفرنسية, وكتاب (ألف ليلة وليلة).انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون 1/241.
[11]محمدرشيد رضا: مجلة المنار 33/282.