دمشق: الحل سياسي.. وبشروط سورية
هل يلتزم كوفي أنان بالمهمة الموكَلة إليه من مجلس الأمن لتأمين حل في سورية، أم يتجاوب مع المشروع الأميركي – الخليجي – التركي؟
في حركته نحو سورية والعواصم الدولية والإقليمية، لم يقدم أنان أي رؤية أو موقف واضح، فظل يراوح في منطقة رمادية تزيد من علامات الاستفهام، فدمشق تجاوبت مع خطة أنان وسحبت بعض وحدات الجيش من بعض المحافظات، لكن أي مؤشرات لم تظهر عن استعداد الدول الراعية للمجموعات الإرهابية المتعددة الأعراق والأجناس للالتزام بخطة المبعوث الدولي، وفي الوقت الذي واصلت المجموعات المسلحة الاعتداء على المواطنين السوريين وقوات حفظ النظام والجيش العربي السوري، لم يصدر عن أنان أي موقف واضح بهذا الشأن، كما لم يصدر عنه أي موقف بشأن مواصلة الحلف الغربي – الخليجي – التركي حملة التحريض ضد سورية، رغم أن هذا الحلف أشهر مواقفه بأنه يريد “وضع العصي” أمام مهمته، بدءاً من واشنطن التي شككت بموقف دمشق وحرضت أنان على عاصمة الأمويين، وصولاً إلى السعودية وقطر اللتين أعلنتا عن دعمهما للمجموعات الإرهابية التكفيرية بكل أنواع السلاح، وبكميات هائلة من الأموال، وانتهاء بتركيا التي واصل رجب طيب أردوغان رحلاته التحريضية وإطلاق تصريحاته الغامضة، فجزم بأن جميع الخيارات ضد سورية مطروحة على الطاولة، معلناً التفكير بجميع الاحتمالات، فيما تابعه أحمد داود أغلو في تصوير نفسه أنه وزير الخارجية الفعلي للرياض والدوحة بالإضافة إلى “الأستانة”.
من هنا قد نفهم تلك الحركة المسرحية للحكومة التركية خلال استقبالها كوفي أنان، بتنظيم رحلة له إلى ما يسمى “كامب” النازحين السوريين، في لواء أسكندرون (السليب)، أي على أرض سورية محتلة بقوة الاستعمار الفرنسي منذ العام 1939، حين اقتُطع هذا اللواء من سورية وضُمّ إلى تركيا التي أطلقت عليه محافظة “هاتاي”، واستبقت العدو الصهيوني بعد اغتصاب فلسطين، بتتريك كل شيء في هذا اللواء..
على كوفي أنان إذن أن يُنصت جيداً وبدقة للدبلوماسية الروسية والصينية، كما أنه يتوجب عليه أن يستوعب تماماً الدرس الذي تلقاه من طهران، من دون أن يقع بوهم البطولات الفارغة لأحمد داود أوغلو، والإغراءات السخية لحمديْ قطر والسعودية، وهو المعروف عنه سرعة سيلان لعابه، وبالتالي عليه الخروج من المنطقة الرمادية، فالمسائل هنا لا تحتمل اللعب بتاتاً، ذلك أن الصراع الآن هو صراع إقليمي ودولي كبير تحت مسميات عديدة، خصوصاً أن تسويات كبرى تلوح في الأفق تلد من رحم الأزمة السورية، وستقوم توازنات دولية جديدة لدمشق مكانة بارزة فيها، وبالتالي فالعرقلة للحلول السياسية سببها أن أنقرة أردوغان – أوغلو، والدوحة والرياض بدأت أدوارها بالاهتزاز، وهم صاروا في رحلة البحث عن تحسين الموقع، خصوصاً أنهم باتوا يدركون أنهم سيكونون أول من سيدفع الثمن، لأنه من غير الممكن تبرير بقاء ووجود أنظمتهم، فالأسئلة على مستوى كل العواصم العالمية ومراكز الأبحاث بدأت تكبر حول “الديمقراطية” فريدة العصر والزمان وحقوق الإنسان الأولية في السعودية وقطر، وحول الأحلام الإمبراطورية لمهرجي السياسة التركية أردوغان – أوغلو، حيث يعود إلى الذاكرة اللقاء الأخير الذي جمع باراك أوباما في نيويورك مع رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو قبل أقل من سبعة أشهر، إذ لم يستطع التركيان من شدة فرحهما بهذا اللقاء تحمّل الانتظار، فما أن وقف أوباما مؤذناً بانتهاء اللقاء، حتى اندفع أردوغان شاداً بيديه الاثنتين على يد “السيد الكبير” مردداً عدة مرات بالتركية “ايمرينيز آماديين”.. التي لم يفهمها “السيد الأميركي” إلا بعد انتهاء المترجم من وشوشته في أذنه، فعرف أن معناها “نحن رهن إشارتكم”، فانشرحت أساريره وردّ بوداع ضيفه بمبادلته المصافحة بالحرارة نفسها، وهو ما جعل “كسينجر” الأناضول أحمد داود أوغلو ينتشي من الفرح.
هكذا تسارعت الحركة التركية في اتجاهات مختلفة للعمل ضد سورية، وبدأت اتصالاتها مع دول الجوار المحاذية السورية، ومع دول الخليج العربي، خصوصاً مع قطر والسعودية.. اعتقد أردوغان نفسه أنه بات قريباً من تتويج نفسه الصدر الأعظم الجديد، خصوصاً أن حزباً من سلالته برز في مصر، بفضل المليارات القطرية والسعودية، وحلفاؤه في تونس أكدوا وجودهم.. فما الذي ينقصه بعد؟
علاقته مع “إسرائيل” جيدة جداً، رغم مسرحية دافوس، وبعد حادثة سفينة مرمرة وقّع عدة اتفاقيات استراتيجية مع تل أبيب سراً، رغم همروجة الاعتذار التي طلبها من الدولة العبرية التي تسببت بمقتل عدة مواطنين أتراك على متن مرمرة.
هنا كانت المهمة الأساسية للدور التركي الحقيقي؛ أنه رأس حربة الأميركي، فأعلن عن نشر الدرع الصاروخية الأميركية، في تصعيد غير مسبوق بدا للوهلة الأولى أنه ضد سورية وإيران، لكنه في حقيقته أبعد مدى، فهذا الدرع بالإضافة إلى هذه المهمة التي يضاف إليها المصالح الصهيونية، يستهدفان زيادة تطويق روسيا ومنعها من التمدد، خصوصاً تمركزها في المياه الدافئة، فكان على التركي أن يلقى جزاء ما اقترفه عقله من غرور وصلف وخداع، وما ارتكبته يداه من جرائم لا تبدأ بجرائم جسر الشغور.. فحذار من “كامب هاتاي” الآن، وتكرار جرائم الإنكشارية التركية والعصابات المسلحة، التي لا تنتهي بالتهديدات الجديدة التي أطلقها مؤخراً رجب طيب أردوغان.. لعل من الضروري تذكيره بمصير الصورايخ الأميركية على الأراضي التركية عام 1962، حيث نصب الصواريخ الروسية في كوبا على مرمى حجر الولايات المتحدة، فامتثل جون كنيدي للدب الروسي، وقدم تعهداً بعدم الاعتداء على نظام فيدل كاسترو، الذي مازال قوياً في قلب القارة الأميركية، لا بل تزداد رقعة تحالفاته التي تصيب عرش واشنطن بالارتباك.. وحتى الاهتزاز.. أما مصير من نصب الصواريخ الأميركية في تركيا فكان أولاً إزالة الصواريخ الأميركية، وثانياً تمت الإطاحة به بانقلاب عسكري.
مشكلة التركي اليوم أنه ليس إلا الصدر “الأصغر”، فحليفته الصغيرة قطر اكتشفت أنها لاعب لا يقدر أن يسدد لكمات أكبر من حجمه، وبائع الكاز الأكبر في الصحراء العربية، المهزوز بصحة معظم أمرائه، وبسطوته على نجد والحجاز واستلاب أهلها، لا يستطيع أن يتحمل تقدم الأستانة على الدرعية أو الرياض، ولهذا ثمة ضيق وحسد متبادل، لكن المصيبة تجمع خصوماً حين تكون تحت سقف السيد الأميركي.
باختصار، قوى الحرب على سورية جمعت كل عدتها مع بدء مهمة كوفي أنان لتجريم دمشق بتهمة إفشال مهمة “المبعوث الدولي”، لأنها رفضت سحب وحدات الجيش السوري وأسلحته من المدن والأماكن التي رد إليها الأمن والأمان، بعد أن حطّم أوكار العصابات الإرهابية المسلحة، بعدما دفع الشعب والجيش السوري كلفة كبرى عليها.
كانت التهمة كما هو واضح معدة سلفاً، وفهمتها دمشق بدقة، لهذا كانت جازمة بتوفير أنان ضمانات عدم عودة المجموعات الإرهابية، كما حصل إبان مرحلة عمل المراقبين العرب، كما طالبت بمواقف علنية لداعمي الإرهابيين، خصوصاً من التركي والسعودي والقطري، لوقف أي تصعيد إعلامي أو تمويل بالمال والسلاح للعصابات الإرهابية.
مهما يكن، فمع بدء مهمة بطل مشروع “النفط مقابل الغذاء”، انشرح منظّرو التآمر على سورية، لاسيما تلك النخب السخيفة المسماة “نخب ثقافية أو إعلامية أو فكرية”، وظنوا أن زمن المن والسلوى سيهبط عليهم، وسيصيرون من جماعة “يجمع مالاً وعدده”، فبدأوا التنظير الإعلامي على شاشات التضليل و”البين بين” لتغيير موقف موسكو، فتحدثوا عن تفاهمات روسية – أميركية على مهمة كوفي أنان، التي ستكون مقدمة لقرار في مجلس الأمن يفضي إلى تدخل عسكري أطلسي – خليجي – تركي في سورية، وعليه لم يتراجع وليد جنبلاط عن تأييده لديمقراطية رياض الشقفة والعرعور، بناء لزياراته التركية ونصائح حمد وفيلتمان، واستمر سعد الحريري في ملجأه الباريسي في تأكيده على سقوط دمشق، وتحوّل سمير جعجع إلى حليف للإخوان في بلدان الأعراب.. نظّروا للتصعيد وأخذوا تهديد الرجل المريض رجب طيب أردوغان الأخير على محمل الجد، وروّجوا لتحرك وحدات تركية وربما أطلسية.
بدأوا التصعيد المفتعل على الحدود التركية – السورية، وعلى الحدود السورية – اللبنانية، وكانت حادثة مصور تلفزيون الجديد الشهيد علي شعبان.. كما حاولوا التصعيد على الحدود السورية – الأردنية، لكن شعرة من رأس جندي سوري لم تهتز.
وليد المعلم أنجز محادثاته الناجحة مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في موسكو، وبدأ الجميع يكتشفون أنه لا قدرة لأحد على تجريد حملة عسكرية ضد سورية، لا على المستوى الإقليمي ولا على المستوى الدولي.. وتبخرت أحلام المنطقة العازلة على الحدود مع تركيا.
ثمة حقيقة بدأ كل أطراف حلف التآمر على سورية يكتشفونها، بأن الحل السياسي وفق شروط الرئيس بشار الأسد، هي الطريق الوحيد للحل، لذا بدأ كثير من أطراف المؤامرة على سورية يفتشون عن طريق لخطب ودّ دمشق؛ دول خليجية ترسل موفدين سراً إلى دمشق تتبرأ من التآمر السعودي – القطري، وتبدي كل استعداد لأوثق العلاقات السياسية والاقتصادية مع سورية بعد انتهاء الغمة، خصوصاً أن هذه الدول اكتشفت مؤامرات من الدوحة والرياضة ضدها.
وفرنسا بدأت في السر والعلن تتبرأ من نهجها في التآمر على دمشق، لا بل إنها أرسلت إلى دمشق تتوسلها بإعطاء أسماء بقوائم إرهابية نائمة في فرنسا، وبأسماء بعض الجمعيات المتشددة التي تعمل في باريس.. أي إن فرنسا تستعد لما بعد ساركوزي من البوابة الدمشقية.
أحمد زين الدين -الثبات